Print

في شهر أغسطس ذكريات

يسرى حسين
 
 

سينما( الشرق) تقع بجانب منزلنا بالسيدة زينب ،وتبعد عنها بأمتار قليلة ( الأهلي) ،وبالقرب منها ( الهلال) ،وبهذا المعنى ،يحتضن بيتنا مكانة في محور أو مثلث مهم ،وهو استضافته لدور سينما رخيصة ،اذ ثمن التذكرة عبارة عن قرشين ونصف ،ترى بهما ثلاثة إفلام تعالج الإحباط الإجتماعي وضيافة الفقر وغياب الحياة من وسائل تسلية ،فلا نوادي ،ولا قاعات لفنون أو محاضرات .

كان أولاد الفقراء يتجمعون حول تلك السينمات وينتظرون فتح الآبواب للحفلات الصباحية ،ويدخلون في مناقشات حامية عن الأفلام وأبطالها ،والأعجاب بممثلة أو ممثل جديد ظهر على المسرح.

نجوم حياتنا في تلك الأيام: فاتن حمامة وشكري سرحان وعمر الشريف ،ومع ظهور عبد الحليم حافظ ،أصبح الأعجاب به جارفا ،نتيجة ملامحه القريبة منا كذلك حياته ويتمه ومرض يعاني منه.

كانت هناك مطبوعات توزع أغاني المطربين ،من عبد الحليم لشادية وفايزة أحمد وصباح ،واعتادت مطابع فقيرة في الفجالة وشارع محمد علي طبع هذه الكراسات ،التي تحتوي على أعمال المطربين ،واسم المؤلف والملحن.

كانت حياة الصبا مشبعة بهذا المناخ : أفلام السينما وأغاني نسمعها من اجهزة الراديو بالمقاهي ،وتأتي إلينا من نوافذ الجيران ، خاصة صباح الجمعة وبرنامج من كل فيلم أغنية أو ما يطلبه المستمعون

هذا كان حال حواري مصر وشوارعها ،قبل الأنتقال لمرحلة أخرى اختفت فيها تلك البرامج وهيمنت أخرى ،لا تناقش سوى قضايا دينية تتحدث عن ظروف ومجتمعات منغلقة ،ليس فيها سينما( الشرق) في مثلث دور السينما الذي عاصرته خلال حياتي المبكرة بالسيدة زينب .

عندما خرجت من شارع خيرت ،اكتشفت سينما( رويال) التي تحولت لمسرح الجمهورية ،والأخرى( ايديال) المجاورة لها ،ويحدثنا المخرج صلاح أبو سيف عن تأثيرها في عشقه لفن السينما ،ودخوله استديو مصر ،ثم احترافه الإخراج السينمائي.

كانت سيارت الأجرة بشوارع القاهرة ،مؤشر اجهزة الراديو ،عن محطات تبث الأغاني المبهجة ،وأصاب تلك المواصلات عدوى التدين الكاذب ،فتسمع خطب مقززة ،تتهجم على النساء وتدعو لضربهم ،كما تقول الشريعة وتتحول مسافة الركوب مع سائق ملتح ،لعذاب وتأديب وتذكير بنار جهنم .

كل جيلنا ،عاصر القاهرة المزدحمة بدور سينما رخيصة ونظيفة تعرض أفلام من الشرق والغرب ،وتزرع داخل الروح البهجة ،لأستيعاب الفقر والتغلب عليه بالقفز لعالم الأحلام المحًرك للعقل من اجل اللحاق بظروف أفضل ،والأرتباط بالتعليم والفن وأفق الحياة المفتوحة.

كانت الإذاعة تبث الأغاني الجميلة والمبهجة ،خاصة في الصباح مثا ( يا صباح الخير يالي معانا) لأم كلثوم ،بجانب أعمال أخرى تحث على الأمل والثقة ومقاومة اليأس والأحباط.

سيطر على الإذاعة عدة اسماء مثقفة ،اهتمت بالأمل لأنقاذ الإرواح من اليأس ،وهو مرض يصيب البشر ،لو غابت عوامل البهجة ،والفن قادر على طرد الأرواح الشريرة التي تعشعش في العقل بسب الأحباط ورواج ثقافة الظلام التي تزرع الخوف ،وتنفي الحياة وجمالها وتربط الناس بالآخرة وتدفعهم للتفكير فيها ليل نهار والتخويف من عذاب قادم وجهنم تشوي البدن إليّ ،ما لا نهاية.

زماننا القاهري لم يروج لتلك الثقافة لأن الإذاعة تبث الساعة الخامسة مسلسلات يومية عن ( حسن نعيمة) و( سمارة) وعشرات الأعمال البديعة ،التي تربط المستمع بحكايات مستمرة ومشوقة بفن بديع.

هذا العالم لم يكن يتسع لفقهاء الظلام والضلال ،اذ الواقع مشغول بقضاياالحياة ،ولم يكن الوقت يتسع عن فتاوى غريبة وسخيفة وحكايات عن بشر رحلوا منذ اكثر من الف عام.

جيلنا انشغل بمارلين مونرو ،وجاك ليمون وتوني كريتس ،مع رشدي إباظة وتحية كاريوكا وهند رستم ،التي سيطرت على الشاشة والحياة ،وعندما حضرت نادية لطفي كان صورة فتاة العصر بجمال مهذب رقيق ولغة وحضور بالغين التأثير ، وجاء زمن لبنى عبد العزيز ،وصيحة ( أنا حرة) بطيف إحسان عبد القدوس وأفلام اخرجها صلاح أبوسيف.

القاهرة عاشت زمن مختلف ،لم يتوقع اكثر المتشأمين ضياعه ،وحضور زمن آخر برموز مختلفه ،اذ اختفت هند رستم وظهرت أم أحمد زوجة محمد مرسي ،والنظر اليها وزوجها يعكس مأساة مصر ،من المدنية ومحلات ( شيكوربل) للإخوان ومتاجر ( التوحيد والنور).

نسف المجتمع القديم الجميل ،تم بسبب النكسة وسيطرة قيادات غير متعلمة ،اذ لا مقارنة بين النحاس باشا ،وكمال الشاذلي الذي تربع على الحياة السياسيةلأكثر من أربعين عاما ،فا لأول ( النحاس) سياسي على دراية بالعصر ،والآخر ريفي متخلف ظل ينهب مصر بسبب نفوذه في عهود الأستبداد والأنفراد بالسلطة ،وقد صورت رواية ( عمارة يعقوبيان) الأنتقال من مجتمع( جروبي) لأمبراطورية كمال المنوفي الفاسد.

الفساد السياسي والنوم في سرير الإخوان ،دمر المجتمع القديم الذي عشناه ،وننظر إلى الخلف بفرح وبهجة ،حتى ننسى زمن فتاوى الكراهية وشخصيات تروج لقضايا تعود لأكثر من الف عام حيث الأبل والمرأة المتنقبة خوفا من غارات قبائل أخرى تعيش في الصحراء.

انتقلت الصحراء إلينا ،نحن الذين شيد لنا الخديو إسماعيل دار الأوبرا في قلب القاهرة ،وانتشرت بعد ذلك دور السينما وظهر نجيب الريحاني على مسارح عماد الدين.

أمة غبية ،خلعت ملابسها ، وحرقت دار الأوبرا وأخيرا سينما( ريفولي) في قلب القاهرة الخديوية والأوروبية ،فما تنتظر سوى ظهور وجدي غنيم ومحمد حسان ،بعد أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة وفايزة أحمد؟.

الشعوب تصنع تقدمها ،وهي أيضا تنسج مراحل تأخرها للوراء ،ومصر نموذج لتلف العقل الجمعي الذي هجًر طه حسين ،واستمع لسيد قطب ونظرياته الخطيرة المحرضة على هدم مصر ،لإنها تسمع أم كلثوم .