Print

نصف قرن على ميلاد الهرم

فاطمة ناعوت

لحظةٌ تاريخيّة مشهودة كتبَ الحظُّ الطيبُ لي أن أعيشها الأحد الماضي١٨ نوفمبر.

لحظةٌ لا تتكرر إلا كل خمسين عامًا.

اليومَ يوافقُ اليوبيل الذهبي لميلاد أحد أهرامات مصر العظيمة. الكاتدرائية المرقسية بالعباسية. ذلك الكيان المعماري والروحي الأنيق الذي يُجسّد معنى كنسيتنا المصرية الوطنية النبيلة التي يبلغ عمرها عشرين قرنًا من الزمان، أثبتت خلالها وطنيتَها على مرَّ القرون والحقب، ونبالةَ ردّ فعلها تجاه الأزمات والمحن، وصمودَها المتحضّر في وجه مخربي مصر وأعداء الوطن.

لَم تسمح كنسيتنا المصرية العظيمة يومًا للكارهين والحاقدين أن يمزّقوا نسيج مصر أو يفرقوا بيننا وبين أشقائنا المسيحيين؛ الذين أثبتوا في مئات التجارب أنهم لا يعرفون سوى المحبة والغفران والتسامح والترفع عن رد الإساءة بالإساءة. هكذا كان المسيحيون بالأمس، وهكذا هم اليوم وهذا ما سيكونون عليه غدًا وبعد غد. يقدمون كل يوم درسًا أنيقًا للإنسانية الكريمة التي تنفذ وصية الله على الأرض في نشر قيم المحبة والسلام بين البشر.

وهكذا كانت الكنيسةُ المصرية الوطنية منذ ألفي عام، قطعةً مضيئة من السلام والوطنية والقيم النبيلة على أرض بلادنا الطيبة. منذ تأسست كنيستنا المصرية بالأسكندرية في القرن الأول الميلادي في عهدها الأول على يد القديس مرقس، تلميذ السيد المسيح وكاتب أول الأناجيل الأربعة، وحتى اليوم في القرن الواحد والعشرين في عهد قداسة البابا تواضروس الثاني، توحدت كلمة ال ١١٨ بطريرك حول حكمة واحدة ثابتة لا تتغير، وهي: مكافحةُ العنف بالرحمة، ومعالجةُ الشر بالمحبة، ومواجهةُ الإساءة بالتسامح والغفران والعطاء.

فالكنيسة المصرية هي التجسيد العملي لموعظة السيد المسيح فوق الجبل: “سمعتم أنه قيل: عينٌ بعين وسِنٌّ بسنٍّ، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرَّ…. وسمعتم أنه قيل: تُحبُّ قريبَك وتبغض عدوَّك، وأما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.” ذلك هو الدرسُ النبيل الذي لا تتوقف الكنيسة المصرية على تعليمنا إياه، على مدى وعشرات القرون، في عهود كل من تواتر عليها من بطاركة كرام، كانوا وظلوا وسوف يظلّون دومًا، يُقدمون حفظ القِيم الرفيعة الراسخة على حفظ المنافع الرخيصة الزائلة، ويقدمون صالحَ الوطن ووحدة تماسكه، على كل ما عدا ذلك من مصالح شخصية أو فردية. كانت كلمة الكنيسة المصرية دائمًا واحدة وثابتة وحاسمة: مصر فوق الجميع، ورفعة اسمها ووحدة شعبها في مقدمة الأمور. فمصرُ ليست مجرد أرض نحيا فوق ترابها، إنما كانت هي الملاذ الأوحد الذي اختارته مريمُ العذراء لتلجأ إليه مع طفلها الوليد السيد المسيح، عليه وعلى أمه السلام، هربًا من السفاح هيرودس في الناصرة. لهذا فإن لمصر خصوصية هائلة في قلب كل مسيحي في هذا العالم. 

وكان حرصي شديدًا على حضور لحظة تدشين الكاتدرائية المصرية بعد تجديدها في يوبيلها الذهبي بعد مرور نصف قرن على ميلادها؛ لأنني لا أراها مجرد دار عبادة، بل هي "هرم مصري رابع"، رغم طفولتها كمنشأة مقارنة بكهولة الهرم من حيث القدم. فأحجارها، وإن كان عمرها خمسين عامًا، إلا أنها تحمل تاريخ ألفي عام من البسالة والاستشهاد والوطنية، مرّت على ميلاد الكنيسة المصرية منذ القرن الأول الميلادي وحتى اليوم.

كان من المفترض أن يكون الاحتفالُ باليوبيل الذهبي لتدشين الكاتدرائية المرقسية احتفالا قوميًّا ووطنيًا وعالميًا حاشدًا يحضره ملوكٌ ورؤساءُ ووزراء وسفراء وبطاركةٌ وشيوخ وأزاهرة ورموز دولية رفيعة من أنحاء الدنيا. ولكنْ، احترامًا لأرواح شهداء المنيا الذين نالتهم رصاصاتُ الغدر والإرهاب قبل أسابيع قليلة، قرر البابا أن يقتصر الاحتفالُ على قداس وصلاة في الكاتدرائية بعد تجديدها بحضور بعض الضيوف الرمزيين.

نشكر كل الفنانين الذين رسموا الجداريات الجميلة على سقوف وجدران الكاتدرائية، ونشكر المهندسين والفنيين والعمال الذين قاموا بأعمال التجديد والترميم لحصن مصر الطيب. وتحية احترام لقداسة البابا تواضروس على حكمته المشهودة في قيادة الأمور في أوقات الأزمات العصيبة. وأدعو الله أن يعينه على منصبه العسير. والشكر موصول لأشقائي المسيحيين، الذين يثبتون كل يوم حجم وطنيتهم وتحضرهم فيكونون خير سفراء لرسالة السلام التي جاء بها السيد المسيح عليه السلام. وكل عام وكاتدرائيتنا الجميلة جميلةٌ وآمنة وحِصنٌ وحُضنٌ لمصر وللمصريين.