Print
abouna bishoi 
"... وحيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي" (يو 12 : 26) 
كنيسة مار مرقس بلندن تودع الى مساكن النور كاهنها القمص بيشوي بشرى
اقلاديوس ابراهيم – لندن

يعز على الانسان ان يودع للمرة الأخيرة شخصاً عزيزاً اختطفه الموت، ويعز عليه بالأكثر أن يكون ذلك الشخص أخاً بالجسد، هذا ما حدث في منتصف ليلة الأحد الماضي عندما رحل من عالمنا الفاني الاب الفاضل القمص بيشوى بشرى كاهن كنيسة مار مرقس بلندن الى مساكن النور. فبالرغم من كثرة الصلوات المصحوبة بالدموع التي رفعها ابناؤه ومحبوه في كنائسنا القبطية بلندن والمملكة المتحدة طوال فترة تواجده بالعناية المركزة بمستشفى "كينجز كوليدج" بلندن، إلا أن ارادة الله كانت اقوى من رغبات البشر، فلبى نداء السماء ليستريح من متاعب وآلام المرض الذى لازمه طوال سنوات خدمته منذ وصوله الى لندن في اكتوبر 1978.
وفيما كانت الاسرة ومحبوه يستعدون كعادتهم في شهر مايو من كل عام للاحتفال بعيد ميلاده (20 مايو 1941)، وبعيد سيامته (28 مايو 1972)، أراد الله له ان يحتفل بهما في السماء مع الاربعة وعشرين قسيساً، ليستمر في خدمة التسبيح وتقديم البخور أمام العرش الالهي في الكنيسة المنتصرة.
اختياره للكهنوت:
وباعادة عجلة التاريخ بضع سنوات للوراء، يتضح أن كل الدلائل كانت تشيرالى أن الشاب منير بشرى مقار (اسمه قبل الكهنوت)، المولود بالقاهرة في 20 مايو1941، والذي تخرج من كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1965، وعمل مراجعاً ثم مديراً لحسابات شركة البويات والكيماويات بالقاهرة، مختار من قبل السماء ليكون كاهناً على مذبح الله، حيث وهبه الله صوتاً جميلاً، واداءً روحانياً متميزاً، ومحبة قوية للطقوس الكنسية، وغيرة شديدة على العقيدة الارثوذكسية. وكانت له علاقة قوية بمثلث الرحمات قداسة البابا كيرلس السادس، والاسرة تحتفظ له بصورة يُرى فيها يخدم شماساً حاملاً البشارة والصليب خلف قداسته في أوشية الانجيل خلال القداس الالهي. وروت لي زوجتي – شقيقته – أنه في احدى زياراته مع مجموعة من الشمامسة والخدام لقداسة البابا كيرلس السادس بدير مار مينا، ربت قداسته على كتفه بلطف وقال له "هاتروح منها فين ياابو صوت حلو انت"، وطبعاً قداسته كان يقصد الكهنوت، وهو ما تم بالفعل حيث قام قداسة البابا شنودة الثالث – اطال الله حياته – في بداية عهده برئاسة الكنيسة بسيامته كاهناً على كنيسة مار جرجس بالظاهر بالقاهرة.
محبته وعلاقته الطيبة بالجميع:
كان القمص بيشوي بشرى صاحب قلب كبير، أحب الجميع وأحبه الجميع. وكان الحشد الكبير من المحبين، مسيحيين ومسلمين، الذين حضروا للتعزية وزاد عددهم عن الالفين، امتلأ بهم صحن الكنيسة ومدرجاتها وخارج اسوارها، خير دليل على ارتباط الناس به ومحبتهم له. ولم تكن هذه المحبة وليدة الساعة بل كانت طبيعة فيه منذ نعومة اظفاره، لدرجة أن زملاءه المسلمين في الشركة التي كان يعمل بها في القاهرة قاموا بترتيب حفل له عندما علموا باختياره للكهنوت وقدموا له صليباً من الفضة لزوم خدمة المذبح. وكان حضرات الافاضل شيوخ المسجد الاسلامي المركزي بلندن فضيلة الشيخ محمد فتح الله وفضيلة الشيخ السلاموني من اوائل الذين حضروا لتقديم واجب العزاء للاسرة وللكنيسة. كما حضر ايضا وفد من اعضاء البعثة الديبلوماسية بالسفارة المصرية بلندن برئاسة السفير جهاد ماضي، وعديد من الاعلاميين المصريين مسيحيين ومسلمين، كذلك الدكتور مجدي اسحق رئيس جمعية الاطباء المصريين ببريطانيا واطباء اخرين ممثلاً للجمعية، كذلك جمعية الاطباء الاقباط.
اتساع نشاطاته وخدمته :
لم يتوان عن خدمة الجميع، الاغنياء منهم والفقراء على حد سواء، كان يعود الى منزله أحياناً بعد الثانية صباحاً يتنقل من مكان لاخر في زيارات للمرضى وحل للمشاكل الاسرية، ومواساة للحزانى. كان يفعل كل ذلك رغم علمه بأن حالته الصحية لا تسمح له بكل هذا المجهود، خاصة بعد اجرائه لعملية زرع كبد عام 1989، لكنه كان يشعر بأن الله امد في عمره بضع سنوات ليكمل الرسالة التي ائتمنه عليها، فكان ينفذ وصية الكتاب المقدس "فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين" حتى لو كان ذلك على حساب صحته واسرته، وهو ما يتحدث عنه اقباط المملكة المتحدة عامة واقباط لندن خاصة.
كما كان يسعى جاهداً أن يكون للرب بيت في كل مدينة بالمملكة المتحدة وارتبط اسمه بتأسيس كنائس عديدة بدأت بخدمة مجموعات قليلة من الاقباط في مناطق وبلدان مختلفة داخل المملكة وفي اوروبا، وانتهت الى وجود كنائس قبطية يرعاها كاهن قبطي في تلك البلدان، بل ان هناك ايبارشيتان وثلاثة اساقفة في المملكة المتحدة واكثر من عشرين كاهناً. هذا العمل العجيب كان وراءه قوة الهية سندت هذا الاب الفاضل، فعندما حضر الى لندن للخدمة والعلاج لم يكن للاقباط سوى كنيسة واحدة في لندن، بينما يوجد حاليا اربع كنائس وسبعة كهنة واسقف عام هو نيافة الانبا انجيلوس.
وكانت خدمة بقية مدن المملكة قد بداها المتنيح القمص انطونيوس فرج ومن بعده القمص شنودة دوس حتى نهاية عام 1978 ، ثم استلم القمص بيشوي بشرى هذه الخدمة واشترك معه القمص انطونيوس ثابت (وصل للخدمة بلندن عام 1981)، فكان يسافر مساء الجمعة من كل اسبوع الى احدى المدن البريطانية لخدمة الاقباط فيها ويعود بعد ظهر السبت، ومن هذه المدن برمنجهام ومانشستر وليفربول واسكوتلندا وويلز وبرايتون وايرلندا وغيرها، واصبح للاقباط في هذه المدن وغيرها كنيسة وكاهن، ويرجع الفضل في كل ذلك الى الله تبارك اسمه والى الخدمة الامينة المخلصة للمتنيح القمص بيشوى بشرى والاباء الكهنة الاخرين.
وامتدت خدمة القمص بيشوى بشرى لتصل الى مدن اوروبا فكان يسافر الى سويسرا ومارسيليا وبروكسل والدانمارك وغيرها بالتناوب مع القمص انطونيوس ثابت الى ان تأسست كنائس قبطية واستقرت الخدمة في تلك البلاد.
تحمله صليب المرض ورحيله بسلام:
حمل القمص بيشوى في جسده صليب المرض، منذ شبابه المبكر، وهو ما استدعى حضوره الى لندن للخدمة والعلاج، ولم يكن من وسيلة لعلاج المرض سوى بزرع كبد له عام 1989 ، قيل وقتها ان عمر الكبد المزروع لن يزيد عن 8 الى 10 سنوات على اقصى تقدير، لكن كان لله تقدير اخر فامتد عمره ثمانية عشر عاماً، شعر فيها ان الله يريد ان يستخدم كل دقيقة من حياته في خدمة شعبه فكان يستثمر كل وقته في الخدمة خاصة المرضى والمتألمين لينال بركة هذه الخدمة.
لكن يبدو ان عقارب الساعة دقت في الشهور القليلة الاخيرة من حياته فبدأت صحته تتدهور قليلاً قليلاً، ونصح الطبيب المعالج بضرورة زراعة كبد مرة اخرى، لكن الله كان له ترتيب اخر، فصلى آخر قداسين له على الأرض يوم جمعة ختام الصوم ويوم أحد الشعانين، ولم يتمكن من حضور اسبوع الالام ولا ليلة عيد القيامة، بل من المنزل الى المستشفى ومنها الى السماء بعد ان مكث حوالي الاسبوعين في غرفة العناية المركزة واسلم الروح وحوله افراد اسرته والاباء الاساقفة نيافة الانبا بولس ونيافة الانبا انجيلوس والقس توماس فايز والقس شنودة عشم. وتبارك بجسده المسجي عدد كبير من الشباب والكبار كانوا موجودين بالمستشفى وقت الوفاة. وهكذا رحل القمص بيشوى بشرى من عالمنا الفاني تاركاً في العيون دموعاً لن تجف، وفي القلوب فرحة وألم، فرحة وصوله الى السماء في وقت تحتفل الكنيسة في بافراح القيامة ليكون شفيعاً لنا امام عرش النعمة، وألم الفراق الذي سيستمر لفترة طويلة والذي لن ينفع معه سوى تعزيات الروح القدس للاسرة ولشعبه ومحبيه في كل مكان.