Print

مَكَانَةُ سَبْتِ لِعَازَرَ فِي عِبَادَةِ الكَنِيسَةِ

(معناهُ ومَغْزَاهُ في الليتورجيا)

القمص أثناسيوس فهمي جورج

ينتهي الصوم الكبير بمعناه الحصرﻱ يوم الجمعة الذﻱ يلي الأحد السادس من صوم الأربعين. ويحتلّ سبتُ لعازر مكانةً خاصةً وفريدة في السنة الليتورجية ؛ ما بين الأربعين المقدسة وبداية أسبوع البصخة.. فالسبت (سبت لعازر) مقدمة الشعانين ورحلة الآلام الفصحية ، وهو إشارة وظل إلى سبت قيامة الرب المجيدة. ويرتبط سبت لعازر بأحد الشعانين ارتباطًا زمنيًا في الليتورجية كيومين متتاليين ؛ يجمعهما أيضًا الموقع الجغرافي ؛ حيث كان الانطلاق من بيت عنيا إلى أورشليم... فالارتباط زمني جغرافي ليتورجي ؛ يأتي كرمزٍ لتحقيق مسبق لقيامة الرب ؛ حيث يظهر لنا لعازر على عتبة أول أسبوع الآلام كسابق لقيامة المسيح ، كما كان يوحنا المعمدان عشية عيد الظهور الإلهي سابقًا له ؛ عندما كان مزمعًا أن يظهر في المعمودية عند نهر الأردن.

ويأتي سبت لعازر حبيب الرب ؛ رمزًا للموت والحياة بآنٍ واحد ، حتى أن الأكفان دُعيت (لعازريات) ؛ وصارت إقامته من الموت مقدمةً لقيامة المخلص ؛ عندما أعلن سر تجسده (بشريته) لما بكى عند القبر ، وأظهر في نفس الوقت سلطان لاهوته ومجد ربوبيته بندائه المثنَّى (لعازر لعازر) هلم خارجًا.. فلولا أنه نادى عليه بإسمه ؛ لكانت قبور بيت عنيا قد فرغت من موتاها... أقامه بعد أن قُبر أربعة أيام وأنْتَنَ ، فبصوته يحيا الذين يسمعونه بالقبور... مثلما قال في القديم (ليكن نور فكان نور) ، وهو يقيم كل ميت بالذنوب والخطايا من نَتَنِ الفساد والضعف ، والسامعون يَحْيَوْنَ بنوره.. إنه نموذج تأكيد للقيامة العامة ؛ حيث المسيح الضابط الكل يقف أمام القبر والموت ؛ وبصوته الإلهي الآمر ، تعُود الحياة والديمومة ، وهذه كلها نماذج لقيامة الأجساد العامة.

كذلك تصف الكنيسة التذكار السنوﻱ لسبت لعازر ودخول السيد إلى أورشليم في أحد الشعانين ؛ على اعتبار أنه دخول من الألم وموت الصليب إلى القيامة ؛ ومن مرض الخطية وفسادها وموتها وقبرها وجحيمها إلى نور وإشراق القيامة وإنارة الخلود.

ويعتبر سبت لعازر عَتَبةً أو سُلَّمَةً للدخول به كمفتاح إلى سر الفصح الليتورجي. وسُمِّي سبت لعازر في الكنيسة الأولى (إعلان الفصح) : باعتباره إعلان واستباق حقيقي لموت الصليب والنزول إلى الجحيم وفجر القيامة ؛ حيث لعازر صديق المسيح يمثل العالمَ كله؛ وكل إنسان وكل بيت عنيا يريد المسيح أن يستريح فيه ؛ وأن يكون موضع محبته وحياته.. فقد جابَهَ المسيح (الحياة) نقيضة (الموتَ) عند القبر.. لاقَى العدو السارق الذﻱ جعل نفسه رئيسًا لهذا العالم.. أتى بمحبته التي غلبته ؛ وبكى علينا ؛ وصُلب من أجلنا ؛ تلك المحبة هي التي بكت عند القبر ؛ وبكت على أورشليم ؛ وبكت في جثسيماني ؛ وجعلت هذا الأسبوع أسبوعَ بكاءٍ ؛ المحبة التي صارت لنا متجسدةً ؛ وأعادت لنا الحياة بمعناها الكوني والشامل.

ونحن في احتفالنا بسبت لعازر ؛ إنما نتذكر قيامته التي صارت ظلاً ورسمًا للقيامة ، وهي ختام الآيات التي صنعها الرب لإيمان لا نهاية ولا حدود له. اتّجه إلى بيت عنيا ليقيم لعازر الذﻱ مات وأنْتَنَ وملأت رائحة موته المكان.. بكاء وعويل على التلميذ الذﻱ كان يسوع يحبه ؛ لأنه ليس مريضًا ؛ لكنه مات وقد أنتن. وقف المسيح (الحياة) أمام جحيم الموت وفتح فاه فاغرًا لينادﻱ على لعازر الذﻱ ابتلعه الموت.. نادىَ عليه ربُّ الحياة ؛ فهز أركان بوابات الجحيم (لعازر هلم خارجًا) ؛ فقام الميت وخرج ؛ وتحول الحزن إلى فرح ؛ والنواح إلى عجب ؛ والبكاء إلى تهليل.. نقله من الموت إلى الحياة ؛ وهو وحده ديان الأحياء والأموات الذﻱ ليس لملكه انقضاء ؛ وهو الذﻱ يُقيمنا من صمت القبور. فوراء العدو الأخير للإنسان الذﻱ هو (الموت) يوجد أعظم حبيب ونصيب.

لنبتهجْ ونفرحْ ونسجدْ سجود الأدهان بعبادة الطيب الناردين كثير الثمن ، ونخدم كرازة الإنجيل للعالم كلِهِ ، مُعَيِّدين بترتيب طقس الواصلين إلى قرون المذبح ؛ لأن مسيحنا ربَّ الحياة ينادﻱ علينا وعلى كل ميت فينا ؛ فما لعازر إلا أنا ؛ يُقيمني من سُبات الموت والعصيان والأباطيل وقبر الظلمة والأكفان وأغلال الخطية ؛ لأُبصر الحق والحياة ؛ فيتحول النوح إلى سرور وفرح.. وكما أقام لعازر ؛ سيُقيمنا نحن أيضًا ؛ وسيقيم آدم وبنيَهُ ؛ لأن الخلاص قد تم بدم صليبه؛ وهو ينادﻱ علينا بسلطانه (هلم خارجًا)؛ إذ أن الذين في القبور يسمعون صوتَهُ والسامعون يَحْيَوْنَ ؛ وهو الذﻱ يدعو الأشياء إلى الوجود من العدم ؛ وإلى الكينونة من اللا شيء ؛ ويشكّلهم بقوة لاهوته.. وها الجموع وقد رأت لعازر خارجًا من القبر ؛ أبصروه بعيونهم ؛ واشتمّوا بأُنُوفِهِمْ رائحة الموت البشعة ؛ ولمسوا بأياديهم الحجر ؛ عندما رفعوه وفكوا رباطات أكفانِهِ.

إن ترتيب سبت لعازر قد ارتبط بشدة بالدخول الملوكي إلى أورشليم ؛ لأن إقامة لعازر هي مثال لقيامة السيد الرب بعد ثلاثة أيام ؛ ومثال للقيامة العامة للجنس البشرﻱ ؛ وقد وضعته الكنيسة في السبت السابق مباشرة لقيامة المسيح ؛ لندخل في عبادة الآلام برجاء القيامة والحياة.

فمسيحنا المصلوب هو الحياة الأبدية والموت والقيامة في حَوْزَتِهِ وتحت سلطانه ؛ وهو الذﻱ أقام الموتى من القبور وأقام الطبيعة بالكلمة ؛ فآمنّا به ورأينا مجده ؛ ومبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى. لقد أخذنا وعد قيامتنا الذﻱ يتحول فيها نَتَنُ الموت إلى طِيبٍ وقِدر عطارة ، وتُزال الحجارة عن قبورنا فنصير أحرارًا أحياء فيما لله؛ خارجين من قبر تقلبات الزمنيات ؛ حيث نتمتع بجمال كنيستنا العجيب فنذوق طعم القيامة ليس في نهاية أسبوع البصخة فقط ؛ بل منذ بدايته بإعلان مسبق ومستمر.. فيالها من كنيسة كبيت التجميل التي تجمِّل عبادتنا ، لنقول لحن القوة والمجد والبركة والعزة لعمانوئيل إلهنا وملكنا ، مختبرين أرفَعَ المعاني اللاهوتية الخلاصية ، بالاحتفال بسبت لعازر كأنه أحد ، وله رتبة القيامة كيوم الرب ، مع كونه مجرد مقدمة وبداية للأسبوع العظيم.

إنه سبت فصحي يطابق سبت الفرح ، ويبشر بالسبت الأبدﻱ الذﻱ نَبَعَتْ لنا فيه قيامتُنا كلنا... ولندرك أن لعازر حبيب الرب وصديقه هو أنت وأنا ، وهو تشخيص للبشرية كلها ، ومسيحنا يبكي موتنا ؛ ويدعونا بأمره الإلهي اليوم لنقوم من قبرنا وأكفاننا ، فنتمتع بنور صداقته وأخوّته وقيامته ؛ لأنه الحي المحب الألصق من الأخ ، وكل سبت لعازر وكنيستنا حيةٌ ومُقامة .


القمص أثناسيوس فهمي چورچ