Print

الفقراء معكم في كل حين!

بقلم منير بشاي

 

في كل بلاد الدنيا، الفقيرة منها والغنية، المتقدمة منهاوالمتأخرة، هناك خط أفقي يسمونه خط الفقر يحدد المستوى لمن يعتبروهم فقراء.  وبديهي ان هذا المستوى يختلف من بلد الى بلد، كما ان نسبة الفقراء بالمقارنة بعامة الشعب أيضا تختلف باختلاف البلاد. تقول الاحصائيات ان نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة تبلغ حوالي ١٠٪ من عدد السكان بدخل يقل عن ١٢ ألف دولار للفرد في السنة.  اما نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في مصر فتبلغ حوالي ٣٥٪ بدخل يقل عن ٥٠٠ دولار للفرد في السنة.

والناس يعيشون إما فوق خط الفقر او تحته، او يتأرجحون تارة فوقه وتارة تحته.  ومع ذلك فدرجة رضى الناس أو سخطهم لا تتمشي بالضرورة مع مستواهم المالي.  فهناك فقراء ماليا ولكنهم راضون نفسيا والعكس صحيح.  ولكن لا شك ان هناك حالات مأسوية يعيش فيها الكثيرون والتي يجب أن تدفع كل من يتمتع بقدر من الإنسانية الي العمل لإيجاد حلول لها.

في المقابل هناك من يستغل المشكلة ليتسلق فوق اكتاف الفقراء ليحصل على الثروة والجاه.  كما أن هناك من يستغلون الفقراء بالتظاهر انهم أنصارهم.  البعض يفعل هذا ربما للحصول على مكاسب سياسية.  وهناك من يحاول بإخلاص ثم يدرك ان الامر أكبر من طاقة البشر.  وهناك من يتصرف بجهل وبدلا من أن يحل المشكلة يزيدها تعقيدا.

والنتيجة انه مع تقدم الانسان العلمي والتكنولوجي وقطعه أشواطا كبيرة في الرقي والازدهار، ورغم تبنّيه الفلسفات التي تدّعى انها تساوي بين الناس، ولكن الانسان لم يستطع القضاء على ظاهرة الفقر.

عايشت هذه الظاهرة واعرف معنى ان تكون قريبا من ذلك الخط تحاول ان تتفاداه قدر ما تستطيع. عشت طفولتي في مصر في عصر الملكية.  كانت هناك بعض الأسر القليلة الفاحشة الثراء، وكان عامة الشعب ينقسمون الى طبقة ميسورة الحال وطبقة (مستورة) الحال وطبقة فقيرة.  وكان المال قليلا في يد الناس وكانت متطلبات الحياة فوق طاقة معظم الناس.  ومع ذلك كان الناس يملكون بيوتهم المتواضعة وقليلون كانوا يسكنون بالإيجار.

كنا ننتمي للطبقة المتوسطة الكادحة.  وكان أبي يعمل صائغا ولكن نفقات اسرته التي تتكون من خمسة أبناء كانت تستنفد كل دخله، وأحيانا عندما كان يجيء وقت دفع الرسوم المدرسية كانت أمي تضطر الى بيع قطعة من مصاغها لتسديد هذا الاحتياج.  وكانت امي تمتلك بيتا ورثته عن أمها وكانت تؤجره بمبلغ ضئيل. وكان هذا المبلغ مالها الخاص تتصرف فيه كما تشاء، وان كانت في أوقات كثيرة تستخدمه لتسديد احتياجات البيت عندما تتأزم الأمور.  وفي تلك الفترة عندما تحسنت أحوال ابي استطاع ان يدّخر ما يمكنه من شراء عقارا عليه بعض الشقق.  وبعدها توفي والدي وبنينا هذا العقار  مما ترك من رأسمال لنعيش منه الي ان انتهينا من فترة الدراسة واستلام العمل.. 

قامت ما سميت بثورة ٢٣ يوليو ٥٢. وبعد صراع على السلطة استلم عبد الناصر مقاليد الحكم ووجه اهتمامه من البداية لعلاج مشكلة الفقر.  وهداه تفكيره الى ان الحل هو إعادة توزيع الثروات في البلاد.

استولى عبد الناصر على معظم أطيان الاقطاعيين ووزّعها على الفلاحين المعدمين بواقع ٥ أفدنة لكل اسرة.  ولكن هذا العمل بدلا من ان يساعد الفقير أضر بكل مصر وقضى على تفوقها الزراعي.  فملاك الأرض الجدد لم يكن لديهم الكفاءة التي تؤهلهم لإدارة هذه الأراضي، بالإضافة الى انه بمرور الزمن تم تفتيت تلك الأراضي نتيجة التوارث من جيل الى جيل بحيث أصبحت ملكية كل اسرة لا تزيد عن بضع قراريط.

بالمثل كان قرار تحديد ايجارات المساكن كارثة أخري.  فرغم انه ساعد المؤجرين لفترة من الزمن لكنه عقّد مشكلة الإسكان في مصر بعد ذلك وإلى يومنا هذا.  هذا القانون جمّد الإيجارات ومنع زيادتها رغم ان التضخم الاقتصادي رفع الاسعار وأيضا الأجور مائة ضعف ومع ذلك ظلت ايجارات الشقق القديمة كما هي.  أما أصحاب المباني الذين كانوا يعيشون من دخلها فقد أصبح هذا الدخل لهم بمرور الوقت لا قيمة له.  وقد تسبب تحديد الإيجارات في عزوف الناس عن الاستثمار في بناء المساكن مما اضطر الدولة لتبني مفهوم قانون الايجار القديم والايجار الجديد الذي يقنن الازدواجية والغبن بين ملاك العقارات القدامى والجدد.

تركت مصر وهاجرت الى أمريكا التي هي بلد رأسمالي بكل المقاييس.  ومع ذلك وجدت ظاهرة الفقر تلعب دورا هاما في المجتمع.  ولأن الفقير لا يملك الكثير من المال ولكنه يتساوى مع الغني في ان كلاهما يملكان صوتا انتخابيا، فهذا جعل السياسيون يلجأون للتقرب من الفقراء بإعطائهم الوعود التي غالبا لا يستطيعون تحقيقها في مقابل استخدامهم للوصول للسلطة.  والنتيجة ان النظام الرأسمالي دخلته الكثير من البرامج الاشتراكية.  وبالمثل لأن البلاد الاشتراكية وجدت انها لا تستطيع ان تنجح بالاشتراكية وحدها أصبحت تتبنى بعض برامج السوق الحر.  ومع ذلك، وسواء في هذا المجتمع او ذاك، فهدف القضاء على الفقر في عالمنا ظل سرابا.

واضح إن مشكلة الفقر التي كانت تشغل الناس منذ القديم ستستمر معنا.  وفي أيام السيد المسيح جاءت إمرأة وسكبت قارورة طيب كثير الثمن على قدميه ومسحتها بشعرها.  ومع ان الطيب ملك لتلك المرأة وهي التي من حقها ان تتصرف فيه كما تشاء، وليس من حق انسان التدخل، ولكن هب المعترضون ينتقدون هذا العمل كالعادة تخت غطاء مساعدة الفقير.  قال يهوذا " لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمئة دينار ويعط للفقراء؟"  ويسجل الانجيل زيف هذا الكلام عندما صرّح "قال (يهوذا) هذا ليس لأنه يبالي بالفقراء بل لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه."  وهنا وقف السيد المسيح ليدافع عن المرأة المسكينة التي قامت بهذا العمل الصادق بدافع المحبة الباذلة وقال "اتركوها فانها ليوم تكفيني قد حفظته."  ثم يعلن خلاصة الامر كله "لأن الفقراء معكم في كل حين "(يوحنا 12: 1- 8)

وكلام السيد المسيح عن وجود الفقر والفقراء لم يكن لتبرير ظاهرة الفقر بين الناس ولكن لإدانة ظلم الانسان وقساوته تجاه أخيه الإنسان.

 

mounir.bishay @sbcglobal.net