Print
الأقباط .. وغباء الدولة من الخانكة إلي بمها

 بقلم  د. سعد الدين إبراهيم   

إن الدولة كيان معنوي غير منظور، ولكنه يتجسم مادياً في أنظمة وأجهزة، يديرها بشر، فيهم رؤساء ومرؤوسون، لهم أسماء وألقاب، ومواقع ومكاتب، ولكثير منهم أزياء تميزهم، وتنبهنا أن لهم سلطة ورهبة. ولأنهم يتحدثون ويتصرفون باسم الدولة، فإن المواطنين يحترمونهم، أو يخشونهم، ويطيعونهم.

وفي مقابل هذا الاحترام والخشية والطاعة يتوقع المواطنون، كل المواطنين، الحماية والرعاية والاحترام من الدولة بأجهزتها وممثليها، من رئيسها إلي خفيرها. هذا هو العقد الاجتماعي الضمني أو المكتوب، في كل الدول والمجتمعات الحديثة. فهل هذا هو حال الدولة المصرية المعاصرة؟

إنني، كأحد مواطنيها، أقول، بعد طول تأمل وبحث وتفكير، إن الدولة المصرية الحالية، لا تحترم العقد الاجتماعي بينها وبين مواطنيها. لقد أخذت منهم، وأخذت... وأخذت ولم تستبق شيئا. لذلك بدأت جماعات منهم، هنا وهناك، تستغيث، حتي تسمعها الدولة. وحينما تتجاهل الدولة هذه الاستغاثات، فإنها تتحول إلي «بكائيات» أو «وقفات»، أو «إضرابات»، أو «اعتصامات»، أو «عصيانات»، أو «تمردات»، أو «اشتباكات مسلحة».

وقد تكررت ردود الفعل هذه، بكل أنواعها ودرجاتها، من المواطنين المصريين بشكل غير مسبوق في سنوات هيمنة النظام وأجهزته هو الذي يهيمن علي زمام الأمور في هذه الدولة المصرية. لقد أفسدوا أرضها، وأذلوا أهلها، ونهبوا مواردها، ولم يوفروا للمستضعفين فيها، لا الرعاية ولا الحماية.

وقد سبق أن كتبنا عدة مرات عن مطالب ومظالم القضاة والشباب والعمال وبدو سيناء. ولكن الدولة المصرية، إما أنها لا تقرأ أو لا تسمع أو لا تستوعب، أو لا تفهم. ولذلك اخترنا أن نصف هذه الحالة «بالغباء». ويتجلي غباء الدولة المصرية في أبشع صوره في تعاملها مع المواطنين الأقباط، الذين هم أصل مصر والمصريين، وهم ملح أرضها. وعبق تاريخها.

 ولأن الدولة تتجاهل مطالبهم المشروعة، ولا تستمع إلي استغاثاتهم، فقد انتقلت عدوي التجاهل، ثم التعصب والتفرقة وسوء المعاملة من الدولة إلي مواطنين آخرين من المسلمين، قد يكونون هم أيضاً من ذوي المطالب والمظالم.

أي أننا أصبحنا في هذا العهد بصدد ضحايا مصريين للدولة، يتكاثرون يوماً بعد يوم. ومع اشتداد الإحباط عند بعضهم، فإنهم يفرّغونه في ضحايا آخرين أضعف منهم. وهذه هي حالة أقباط مصر في العقود الثلاثة الأخيرة، وتحديداً منذ أول فتنة طائفية صغيرة في بلدة الخانكة بمحافظة القليوبية عام ١٩٧٢.

ولأن تلك الفتنة كانت الأولي من نوعها في القرن العشرين، فقد اهتزت لها مصر كلها، خوفاً علي وحدتها الوطنية، وخاصة أنها كانت تستعد لحرب تحرير أراضيها المحتلة منذ ١٩٦٧. وطلب رئيس الجمهورية في حينه، محمد أنور السادات، من مجلس الشعب أن يحقق في أمر تلك الفتنة.

 واستجاب المجلس علي أعلي مستوياته بتكوين لجنة لتقصي الحقائق، برئاسة وكيل المجلس وقتها، وهو القانوني الضليع الدكتور جمال العطيفي.

وضمت اللجنة إلي جانب سبعة من أعضاء مجلس الشعب ثماني شخصيات عامة من علماء النفس والاجتماع وكبار المفكرين الأقباط والمسلمين، وزارت اللجنة بلدة الخانكة، ثم طافت بأنحاء متفرقة من الديار المصرية، حيثما سمعت عن توترات أو احتقانات طائفية.

وأعدت تقريراً ضافياً، اختتمته بعشرين توصية، رأت فيها اللجنة علاجاً لفتنة بلدة الخانكة، ووقاية من فتن محتملة في المستقبل. فما الذي حدث لتقرير لجنة العطيفي، ووصاياه العشرين؟

لم يحدث شيء علي الإطلاق طيلة الخمسة وثلاثين عاماً، التي مضت منذ إعداد ونشر التقرير. لقد رحل د. العطيفي عن عالمنا، ورحل معظم أعضاء اللجنة، الذين تجردوا، وجاهدوا واجتهدوا، وصدّق مجلس الشعب في حينه علي التقرير وشكر من أعدوه، ورفعه لرئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية. صحيح أن حرب أكتوبر وقعت بعد شهور من إصدار التقرير. وانشغلت مصر والمصريون بها، واستشهد فيها أقباط مثلما استشهد فيها مسلمون.

 وكان أحد أبطالها الكبار اللواء القبطي عزيز غالي. وفي غمرة فرحة المصريين بنصر أكتوبر، وما تلاه من معارك التعمير، نسي الكثيرون تقرير العطيفي ووصاياه العشرين، التي لم تنفذ منها توصية واحدة.

وكانت نتيجة هذا التجاهل الفاضح لتوصيات التقرير، تكرار الفتن الطائفية، حتي وصلت إلي أكثر من سبعين فتنة، كان أبشعها ما وقع في بلدة الكشح بمحافظة سوهاج، في أول أيام الألفية الثالثة (١/١/٢٠٠٠)، وكان آخرها ما وقع في قرية «بمها»، مركز العياط، بمحافظة الجيزة، بعد صلاة الجمعة يوم ١١ مايو ٢٠٠٧، وتكاد تكون فتنة بمها نسخة كربونية من فتنة الخانكة قبل ٣٥ سنة.

 وها هو ملخص ما حدث في كل منهما، كما سجلته الأهرام في المرة الأولي (الخانكة)، وتجاهلته في المرة الأخيرة (بمها)، ولكن سجلته تفصيلاً صحيفتا «المصري اليوم» والدستور، في اليومين التاليين (السبت ١٢ والأحد ١٣ مايو).

١ـ عدة مئات من الأقباط يعيشون مع عدة ألوف من المسلمين في إحدي قري مصر، كما عاشوا طوال ألف وأربعمائة سنة. ولزيادة عددهم تضيق بهم أقرب الكنائس المجاورة في بلدان أخري قريبة من قريتهم. فاستخدموا أحد الأبنية المملوكة لأحدهم لإقامة شعائرهم وصلواتهم، وذلك إلي أن تتم الموافقة علي طلبهم لبناء كنيسة في أرض مملوكة لهم، علي مقربة من هذا المنزل نفسه.

٢ـ ولكن بعض المتشددين المسلمين يسارعون ببناء مسجد قرب نفس قطعة الأرض المذكورة المملوكة للأقباط. ويهدفون من ذلك علي ما يبدو، كما نقلته الصحيفتان المذكورتان، أن يعرقلوا مشروع بناء الكنيسة، مستغلين في ذلك قانوناً عثمانياً بالياً منذ القرن التاسع عشر، يسمي «الخط الهمايوني». وهو من القوانين العثمانية القليلة التي استبقتها مصر، بعد استقلالها (١٩٢٣).

وأدهي من ذلك أن وكيل وزارة الداخلية في ثلاثينيات القرن الماضي، في ظل إحدي حكومات الأقلية، وهو العزبي باشا، أصدر لائحة تنفيذية لنفس هذا الخط الهمايوني، تضمنت عشرة شروط تعسفية لبناء الكنائس والمعابد لغير المسلمين، ومنها أن يبعد موقع بناء أي منها بمسافة مائة متر علي الأقل من أقرب مسجد.

 وهذا هو ما يفعله غلاة المسلمين حينما يسمعون خبراً أو النية ـ عن بناء كنيسة ـ أي يسارعون لبناء مسجد أو «مصلية»، حتي يضطر الأقباط للبحث عن مكان آخر، وتقديم طلب جديد، لا بد من موافقة رئيس الجمهورية عليه، وهو ما يستغرق عدة سنوات.

٣ـ وفي آخر واقعة من هذا النوع، وجه عدد من هؤلاء الغلاة نداء (منشوراً بنصه في صحيفة الدستور الأحد ١٣/٥/٢٠٠٧)، وضمن عبارات الكراهية البغيضة التي جاءت فيه «إلي أهالي القرية المسلمين، من يغار علي دينه، فاليوم بعد صلاة الجمعة يقوم النصاري ببناء كنيسة غرب القرية، بجوار الجمعية الزراعية، ولا بد من تواجد جميع المسلمين الذين يغارون علي دينهم من اليهود والكفرة بعد صلاة الجمعة مباشرة. فمن اليوم لا تراخي ولا كسل ولا بد أن يغار كل مسلم علي دينه...».

٤ ـ ونلاحظ في هذا المنشور التحريضي أن «النصاري»، أي المسيحيين في أول سطوره، تحولوا في ثالث سطوره إلي «يهود» و«كفرة». وفضلاً عن لغة القرون الوسطي التي حفل بها النداء، فهو لم يكتف بذلك، بل صعّد لغة الاستعداء، بإقحام «اليهود» و«الكفرة»، ثم بإنذار بالتجمهر بعد صلاة الجمعة لمنع بناء الكنيسة!.

٥ ـ واتضح أن مسيحيي قرية بمها لم يضعوا أساس أي كنيسة في ذلك اليوم أو تلك الساعة. أي أن الأمر كان مجرد «إشاعة» نشرها غلاة متشددون من أهل بمها، ولأن بعض شباب بمها مشحونون بأفكار ومعتقدات متعصبة، فقد استجابوا بسرعة ويسر لنداء «الجهاد» لإنقاذ الإسلام، وكأنهم في الطريق لتحرير القدس.

٦ـ حينما علم بعض مسيحيي بمها بما يدبره المتزمتون ضدهم، أبلغوا السلطات الأمنية المختصة، لكي تتخذ الإجراءات التحوطية المناسبة. ولكن علي ما يبدو، طبقاً لما نقلته صحيفتا «المصري اليوم» والدستور، أن الجهات الأمنية لم تعط الأمر الاهتمام اللازم في الوقت المناسب.

٧ ـ عاث شباب قرية بمها اعتداء علي مسيحيي قريتهم، ونهبوا متاجرهم، وأحرقوا منازلهم، وروعوا نساءهم وأطفالهم. بل اتهم عمدة القرية النصاري بأنهم «كلاب» يريدون خراب بمها (الدستور ١٣/٥ ص٥).

٨ ـ لأن التعامل مع المسألة القبطية أوكل إلي جهاز أمن الدولة، فإن أمور هذا الملف قد تدهورت من سيئ إلي أسوأ، شأن ملف بدو سيناء، وملف الطلبة، وملف العمال، وملف القضاة. لقد سلّم آل مبارك رقابهم، ورقاب الشعب المصري إلي هذا الجهاز المكروه، والذي لا يهمه إلا اعتباراته وأمن النظام. أما عباد الله الصالحون في مصر المحروسة، فلهم ربهم الذي خلقهم.

٩ ـ إن ملف الأقباط، شأن ملفات بدو سيناء وعمال مصر، علي وشك «التدويل». فحينما تصم آذان آل مبارك عن الاستماع لاستغاثات المقهورين داخل الحدود، فإنها تُلتقط خارج الحدود، من الأصدقاء والأعداء علي حد سواء.

١٠ ـ إن غباء الدولة، الذي ورد في عنوان هذا المقال، هو إشارة للمسؤولين الذين يتحكمون في مصائر الناس من أغلبيات وأقليات، ومن عمال وبدو وقضاة ـ ولا يقرأون ولا يسمعون ولا يتعظون ـ لا بعد المرة الأولي ولا بعد المرة السبعين.

 ولا تجدي في حل هذه المشكلات مشاهد الصلح المفتعلة للمشايخ والقساوسة، بينما جراثيم التعصب والكراهية تنتشر وتنهش في العقل المصري، من خلال تعليمه المتردي وإعلامه الغبي، ومباحثه الأكثر غباء.

فلا حول ولا قوة إلا بالله