ثقافتنا العليلة وشعوبها المخدوعهالعلمانية لم تؤدي الي تمني دولة الكفر

 محمد البدري

.  شهر يونيو هو شهر الهزائم بجدارة. فيه ايضا حوصرت العاصمة اللبنانية بعد ان اغتر ياسر عرفات برجاله للمرة الثانية بعد غروره الاول في ايلول الاسود وحاول مجددا الحرب عبر عاصمة اخري باعتبار ان الطريق الي القدس يمر عبر كل عواصم الشرق لتحويلها الي انقاض قبل ان يدخل هو القدس كما دخلوه اول مرة. فالايام العصيبة تلزم المصابين بها من عمل تقييم واعاده فهم لما جري مع التخلي عن الثقة الفائقة والغرور المتعنت بلا مبرر.  فصحة المبادئ وحقائق القوة ومكامن الثروه لم تعد في صالحنا. 

 

لم ينسحب عرفات الي ذاته العاقلة ليعيد النظر بعد يونيو 67 ولم يفعلها ايضا بعد ايلول الاسود وسادر في غيه في لبنان حتي خرج مطرودا من بيروت بتامين مصري له ولرجاله. وظلت حنجرته عالية في تونس وعلي منبر الامم المتحده التي شهد منبرها قبل ذلك بعقود مشهدا مشابها خلع فيه خروشوف الحذاء ليفهم العالم رسالته. كان الحذاء الروسي مضارعا للحنجرة العربية ولسانها الطويل. فاللغة الروسية لغه الادب العالمي بجدارة وليست لغة للهجاء والازدراء او للفخر بصلافة وكذب. ولا نعرف حقيقة من اين اتي كل هذا الكم من الغرور العربي طبقا لخطبهم ورسائلهم. 

 فالزعماء العروبيين اوهموا شعوبهم بتفوقهم علي اساطير داوود وسليمان. كان النص الديني يخاطب العقلاء بقوله افلا تعقلون. لكن الناس صدقت قدره الابطال الدينين علي الفعل رغم ان النص لم ينسب لهم شيئا الا بما قدمه لهم الهدهد والعفريت. زعماؤنا لم يكن لديهم شئ الا تسول الحلول من المنابر الدولية.فبنظرة سريعة الي تاريخ العرب المفعم بالاحكام الدينية وسيطرة الغيبيات فاننا سرعان ما نكتشف مازقا اسلاميا متكررا لا يقل عن المازق العربي الحالي. ففي الايام الاخيرة من حكم عمر ابن الخطاب وقبل وفاته مطعونا قال الرجل " والله لو استقبلت من عمري ما استدبرت لرددت فضل اموال الاغنياء علي الفقراء"هذا الزمن وطبقا لمدونات العرب هو زمن العدل.

واعتراف الرجل ينفي الادعاءات بالعدل. فترة خلافته انتهت الي الندم علي ما جري فيها، رغم قول البعض حاليا ان ما طبق زمن ابن الخطاب صالح لكل زمان ومكان. الم يكن عمر يطبق الاسلام وحدثت الفتوحات باسمه وفي عصره. كانت كل الثروات التي يندم علي كيفية توزيعها من أوطان غير وطنه وصودرت باسم الاسلام. لم يمهله القدر الوقت ليتنحي بسبب الاخطاء فجاء من بعده من جعلها فوضي ادت ايضا الي قتله ....! بعد زمن عمر جرت وقائع كثيرة يستحيل لعاقل ان يتفق معها أو يشارك فيها لعدم وجود أي معيار واحد لبيان الصواب من الخطأ او الحق من الباطل. كلها انتهت الي انسداد حضاري. فالقرآن بين ايديهم وهم له حافظون والاحاديث تجري علي لسانهم وهم بهما مكتفون لادارة امور دنياهم. سنوات اخري مرت فهدمت خلافه واقيمت اخري وسقطت امم وتبدل حكام كلها في ظل الاسلام السياسي فخرجت فتوي تقول " حكم الكافر العادل أفضل من حكم المسلم الظالم " وفي اقوال اخري حملتها كتب التاريخ العربي الاسلامي " الامة العادلة ولو كافرة خير عند الله من الامة الظالمة ولو كانت مؤمنة". وهو اعتراف ضمني بان القائلين بها شاهدوا أمما اخري وقارنوا بينها وبين امة الاسلام. وعندها قدموا العدل علي الايمان وجعلوه معيارا للتعايش ولو اقترن بالكفر. لكن العسف الديني بالعقل والرهبة الكامنة في طيات النفوس الايمانية لم تتقدم بسؤال ما فائده الاسلام إذن إذا كانت الامة الكافرة افضل من تلك المؤمنة؟ فالعدل اساس الملك وليس الايمان.

فما فائده ايمان الحاكم وايماننا إذا كان اساس الحكم مفتقدا؟ الاجابة علي السؤال جاءت من الحضارة الحديثة في توصيفها للعلمانية بجعل الايمان خاصا بالفرد فارتفع منسوب الاهتمام بالعدل وحق الفرد الاجتماعي والسياسي. جعلت الايمان من عدمه مسالة شخصية واهتمت بالعدل الذي اضاعه ابن الخطاب وفي قول الفقية المحبذ للحاكم الكافر علي قرينه المؤمن. فالمازق التاريخي المتكرر الذي انتهت اليه دولة الاسلام السياسي لم يصححه احد بل جاء من الدولة العلمانية حيث يمكن للفرد الدفاع عن حقه امام السلطة دون اللجوء الي المرجعية الدينية. فكلاهما اعتمد مرجعية مدنية متساوون امامها. اما في دولة الاسلام فقد ظلا الطرفين يطلبان العدل فلا يتحقق.  وكأن ندم الخليفة كان دعوة للبحث عن بديل سياسي مما ادي بعد قرون الي تمني امه الكفر بدلا من الوقوع في براثن امة الايمان. فالعلمانية إذن حافظت علي الدين ولم تضعه موضع شبهه تؤدي الي الكفر به، وهو ما افتقدته امة العرب والاسلام التي انتهت الي تمني الدولة الكافرة. الان لم تكد تمر علي صحوة الاسلام الحديثة ربع قرن منذ اجتاحتنا الثقافة المصاحبة للنفط وتكرر الامر مضافا اليه فقدان العقل.

المازق الحاضر اكثر فداحة من المآزق التاريخية السابقة ونجدها في الفتاوي التي يعف اللسان عنها. بل وتخرج من افواه ليس فقط الفقهاء بل ممن تطلب فتواهم لإزهاق الروح بالحق. انه المفتي ومعه أستاذ للحديث باحدي الجامعات التي لا ترقي لمنافسة جامعات العالم بأولوية ترتيب الـ 500 الاول. فطوال البحث عن العدل في كل الثقافات والحضارات والأديان ولدي كل الشعوب لم يجرؤ أحد علي احتقار العقل كما يفعل فقهاؤنا الان. هكذا راكمت امة العرب والإسلام خسائر جديدة ممثلة في تسفيه العقل. وكأن فقهاؤنا ومفتونا لم يكتفوا بالخسائر الملازمة لنا بعد اعتناقنا الاسلام، فساهموا في عملية السحب والتبديد علي المكشوف لثروتنا وطاقاتنا. وكانه لم يكفهم افتقادنا الحرية والديموقراطية  فاكتفوا باقوال التقويم بالسيف التي قيلت زمن تولي الخلافة. فالنظام العلماني اعتمد الحرية للتسلح بها فرديا حتي يتسني للمواطن الدفاع عن حقوقه وألا يتهم في دينه قبل ان يعرض مظلمته. ودون الحاجة للتفتيش في إيمانه. وبدون طاعة أولي أمر انتهوا الي الندم. هكذا تضاف الحرية ومعها الديموقراطية الي قائمة المفقودات في الثقافة العربية الاسلامية. هذه الحالة السياسية والاجتماعية للدولة العلمانية استلزمت مفردات جديدة. المواطن بديلا للرعية والفرد كوحده والقانون الوضعي مقابل الفقه و الشريعةبدلا من الجماعة. والحاكم مقابل الخليفة.

. الدولة الحديثة إذن تحتاج الي الفاظ جديدة تعبر عن وضع مكوناتها بحكم دورها الادائي والوظيفي والحقوقي والقانوني.  فالإيمان الذي لا يتجلي في العدل يكون كفرا. والعدل الذي يتجلي مع الكفر يكون إيمانا.وتحايلت الدولة بمثقفيها والتي دينها الإسلام وتطبق شريعته باقوال خرج بها امثال الافغاني مشددا علي الحاجة الي المستبد العادل كأسلوب للإصلاح. وهو ذات الحل الاسلامي القديم. فكل حكام الاسلام كانوا مستبدين، ومعايير عدلهم استقوها من الشريعة وانتهت اما للندم او تحبيذ دولة الكفر. هنا فالافغاني ليس مصلحا إنما أصوليا يجتر الماضي ويجوب البلاد ساعيا الي إعادة انتاج دولة الايمان الظالمة بنفس الادوات القديمة. وما تكرار الهزائم العربية الا كمتداد للقديم وأدت‏ الي قنوط شديد، ادي الي الانسحاب الي ذواتنا العاقلة متسائلين حيال الهوية والدين‏.‏ فظهر سؤال الهوية للدول التي تتكلم العربية واصبح الاسلام رائجا فيها. فليس كل من تحث العربية عربيا حتي ولو قال الحديث بذلك. لان قضية الفرانكوفونية تشبه الحالة العربية لكنهم ليسوا فرنسيين. اما من جهة الدين فالعدل الضائع في ظل الدولة الإسلامية يسحب البساط من حجة الاجتماع تحت مظلة الاسلام. أما الحس الشعبي العربي السائد الذي يحكي ببطولات وابطال تستند اليها العامة والبسطاء لتقوية النفوس، فهو ايضا خادع وكذوب. فلو احتكمنا الي تحليل الشخصيات الشعبية نجدها اساسا شخصيات تفتقد الشرف إضافة للعدل والعقل والمنطق.

فالعقل الجمعي الشعبي هو غريزي يرنو الي التصديق السريع ويامل في الحلول السهلة ويتمني دائما ما هو غير ممكن للتحقق فاعتمد رجالا من امثال ابو زيد الهلالي او ادهم الشرقاوي كابطال ارتقت بهم الثقافة العربية من خانة اللصوص وقطاع الطرق الي خانة الابطال واصحاب الملاحم. هكذا اضيف الشرف ضمن مفقودات الثقافة العربية. وفي نفس الوقت تسعي ثقافتنا لتجرم ابطالا حقيقين من ارضية الايمان التي لم تمنع ندما او امنية لدولة كافرة. ففرعون مصر المتهم في دينه ليس من قطاع الطرق او اللصوص بل كان شهيدا لانه مات دون وطنه مطاردا للهكسوس والدخلاء. اليس من مات دون وطنه – علي الاطلاق -  فهو شهيد؟


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com