Print
 

شرق اوسط كبير

أم مستنقع عنف ونفايات عقائديه وفساد عقلي

 

محمد البدري

عادت فكرة الارتداد وتهم التكفير بحجة تغيير الدين مؤخرا مع حادثه جديدة في مسلسل تغيير الأديان منذ حادثة وفاء قسطنطين إلي حادثة حجازي الأخيرة. فقضية الارتداد والردة هي قضية مغلوطة أساسا. وما يجعلها حاضرة يدافع عنها المشايخ وبعض المتعصبين بكونها احدي أدوات السلطة الاستبدادية التي تسعي للهيمنة ليس فقط علي مقدرات العيش للمواطنين إنما بامتداد الأمر إلي ما في العقول والعقائد التي يستحيل التعرف علي حقيقتها أو التمكن من صدقها حتى ولو اعترف حاملها لفظا ونصا شهادة وكتابه.

ففكرة الارتداد وما صاحبها من أحكام ظالمة كحكم الردة لا تنطبق إلا علي فترة التسع سنوات في دعوته سرا و جهرا في مكة قبل الهجرة المحمدية إلي يثرب. هناك في مسقط رأسه يمكن القول بان الناس الذين أعلنوا إسلامهم هم فقط الذين يمكن تعريفهم كمرتدين عن دين آبائهم بعد أن راجعوا أنفسهم فيما اقبلوا علي اعتناقه. فهؤلاء المسلمين الأوائل دخلوا الإسلام اختيارا حسب حكايات التراث، وليس قهرا وقسرا. هم فقط تنطبق عليهم فكرة الذهاب والعودة أي الدخول والخروج في مسالة العقيدة. فلأنهم أقدموا علي قبول الدين الجديد يصبح رجوعهم إلي دين آبائهم ارتدادا. فالموقف أساسه اختياري وليس قهري.

  أما قضية إثبات الإيمان من عدمه لا يمكن البرهنة عليها بدليل أن هناك من اسلم سرا وظل مخفيا الأمر في ذات الفترة المكية القصيرة حتى انكشف أمره وعامله أهل مكة الوثنيين بالتعذيب والقتل باعتباره مرتدا عن دين آبائهم.  فقصص سمية وبلال وغيرهم التي أتت مع العرب  شاهده علي خفاء العقيدة وعلي وسائل الوثنين في تعاملهم مع من يغير دينه طواعية خاصة إذا كانوا من العبيد أو البسطاء من الناس بعكس شرفاء القوم وكبرائهم، كابو بكر وعمر، حيث تقف الثقافة العربية بنذالة تامة أمام الفقير منهم بعكس موقفها من الشريف عندهم. فالقوه والعنف والتسلط والثروة هي المحك في محاسبة من يغير دينه من عدمه.

 في هذا المجتمع القبلي يصعب إن لم يكن مستحيلا أن نجد فكاكا من أخلاق القبيلة والتبعية التي تؤكدها فكرة محاسبة المرتد. فتبعية العبيد لأسيادهم تجعلهم يدينون بدين الأسياد وما تغيير الدين سوي إخلال  بأمن علاقات الملكية. بعكس من كان حرا أصلا في الثروة والوضع الاجتماعي فهو المقرر لذاته دون سيادة من احد. وعليه فلا يمكن أن تكون فكرة الوطن والمواطن ضمن قيم مثل هذا المجتمع بغض النظر عن دينه أو ثروته أو وجاهته الاجتماعية. بل لا يمكن زرع فكرة المواطنة وهناك ديدبانات تحاسب علي صورة الكون وشكل آلهته في عقل المواطن.

أما من دخل الإسلام بعد الهجرة أو بعد الغزوات الإسلامية بطول وعرض الشرق الأوسط فلا يمكن اعتبار أمر الارتداد عنده واردا. فالتحول تحت تهديد السلاح وتحت سطوة السلطة وهيمنة الحكم تجعل الأمر مختلفا عما جري في التسع سنوات المكية. فمن اسلم تحت تهديد السلطة لا تجوز عليه فكرة الردة. فهو لم يخير أساسا طواعية ودون إكراه. فمدونات العرب تقول إن البلاد التي غزاها العرب بقوة السلاح  وضعت أمام ثلاث شروط إما الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب. وعليه فظروف الإسلام عندهم تختلف عما عندنا، والظروف التي جرت علي سمية وبلال وأبو بكر وعمر هناك كانت مختلفة تماما عن ما جري في الشرق الأوسط الواسع.

عبر تلك السنوات المكية التسع طرحت لأول مرة عندهم فكرة اختيار لدين جديد ومع ذلك عاملت قريش الوثنية المتحولون للإسلام معاملة المرتد وبطريقة تشبه ما نسمع عنه من فتاوى القتل التي يتبناها بعضا من رجال الدين الإسلامي حاليا. فهل ما يجري ثقافة عربية وثنية جاهلية أم إسلام؟

كان وثنيي مكة، بل كل العرب، بسبب طبيعة ثقافتهم الجاهلية تجعل العقيدة محكا للولاء وضمانا لأمن الجماعة. وتغيير الدين معناه خيانة أو مشروع غدر ينتظر الوقت لتنفيذ مخططه. فولاءات القبيلة عبر النسب الأبوي يتفق ويتناغم ويتساوى مع ولاءات الأب الاعلي في السماوات ألعلي الراعي للجماعة والضامن لانتصاراتها. هكذا كان تفكير العرب عبر ثقافة الصحراء متسقا ومتكافئا مع نفسه قبل وبعد الإسلام. لكن تظل فكرة التحقق من الولاء ساعة الخطر مشكوكا فيها حتى ولو صلي وصام بعضهم.  لهذا ظلت فكرة الارتداد قائمة في الثقافة العربية وتسربت للإسلام أيضا.

هنا يبدو جليا  كيفية تفسير تسرب سلوكيات الوثنيين من قريش مع المتحولين للإسلام في مكة فيما يقول به علماء الإسلام حاليا بحكم المرتد. حقيقة يصعب الرد علي السؤال اللهم إلا إذا كان المنقول إلينا عبر غزوات العرب هي ثقافة العرب قبل إسلامهم وما الإسلام سوي مبرر للسطو علي ما لدي الشعوب من مقدرات وثروات. وهنا يمكننا أن نقول إذا جاء الإسلام  لينفي سلوك وثني مكة فهو صحيح إذا ما فعلنا القاعدة التي جاءت في القرآن بأنه من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

 فإذا كان القرآن هو النص الضامن لصحة الإسلام كبديل للوثنية المكية فان حكم الردة والقتل والاستتابة ليس أكثر من سلوكيات الثقافة العربية بكل جاهليتها والتي مرت علينا في غفلة بسبب عدم التحدث بلغة الوافدين وعدم فهم أدواتهم وطرائق حياتهم. فالدراسة والمعرفة هو ما لا تقبل الثقافة العربية فعله إلا لأنه كاشف عن عورات تلك الثقافة وكما حدث في إهمال لأعمال المستشرقين العظام الذين درسوا المجتمعات التي زاروها. فالمسلمون يريدون من غير المسلمين الأيمان بالإسلام دون أي معرفة خارج ما اعتمد من نصوصهم. رغم أن قبول أي أمر هو رهن بالنقد والمعرفة الأوسع وليس بالتضييق إلي حد الانحشار في جاهلية العرب.

ويتحاجج بعض المشايخ بان هناك ما يشبه الردة في السنة متناسين أن السنة دونت بعد حوالي 150 عام من حدوثها وفي ظروف انهيار سياسي وتكفير وخروج علي الدين من قبل بني أمية وبني العباس.  فرغم أن التكفير صدر من عائشة أم المؤمنين ضد عثمان الخليفة المحاصر في بيته وطالبت بقتله وهو يقرأ القرآن ما يجعل الأمر يبدوا هزلا بقتل من يقرأ القرآن وهو خليفة المسلمين في نفس الموقع الذي شهد ارتداده عن دين آبائه الوثنيين ولم يقتلوه هم.

 وهو ما يؤكد أن فكرة القتل باتت أكثر سهولة عند العرب في الإسلام بعكس باقي الشعوب المتحضرة. كان القتل بحجة الكفر يجري في أوروبا المسيحية رغم عدم وجود نص إنجيلي يحرض علي القتل اللهم إلا السلطة الدينية  والخوف من فقدانها والتي  لم يسلم احد منها قبل الإسلام أو بعده أيضا رغم إلحاح رجال الأزهر وغيرهم من الدعاة انه لا سلطة في الإسلام. لكن واقع الحال يقول بالعكس والا فلم كل هذه الضجة لمن يريد اختيار دين مختلف. اللهم إلا إذا كان ما يرجونه لنا هو أن يظل الناس كالقطيع حسب أخلاق الجاهلية العربية فيما قاله ا لشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى        فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

فلما عصوني كنت منهم و قد       أرى غوايتهم و أنني غير مهتد

ما أنا إلا من غزية إن غوت       غويت و إن ترشد غزية أرشد

فثقافة الرجل تقول بالاندماج مع الجماعة،  يسير على خطاهم ولو كانوا علي خطأ، فلا وجود له خارجها، علي الباطل قبل الحق، وعلى الخطأ قبل الصواب، مهما كانت نصيحته. وهو نفس المعنى في قبل  بدوي "إن جن ربعك فعقلك لن يفيدك". وتلك نفسها فلسفة جماعة الاخوان وفصائل الاسلام السياسي وكثير من رجال الازهر ولا تختلف عن الجاهلية العربية التي نشرها العرب تحت مظلة الإسلام حيث الطاعة بلا نقاش مهما اختلفت الظروف والحكم بالردة ولو كان جاهليا.

فالأخبار الصادرة مؤخرا من الأزهر تقول بخلافاتهم حول مبدأ الردة وأحكامها، وهو طبيعي ومتوقع. لا لسبب سوي ما سبق توضيحه في أصول وجذور ومصادر الحكم بالارتداد مما يدل علي الارتباك الفقهي والإسلامي في تلك القضية وهو خلط بين ما هو إسلامي وما هو جاهلي. فرجال الأزهر يديرون ظهورهم للمعرفة ودراسة علم الاجتماع الديني أو السياسي ويحصرون أنفسهم في النص وفقط لاعاده السيطرة علي الناس رغم لا سيطرة لهم علي احد ولا علي دين احد أساسا. لهذا يتخبطون فيما بين القرآن وفيما بين السنة.

لم يدرس أحدا منهم العرب في جاهليتهم باعتبار أن الاقتراب من الكفار محرم، فلو أنهم فعلوا لأدركوا من أين أتي حكم الردة الذي لم يتنزل به وحي ولا نجد له رصيدا في القرآن. فاكتفي شيخ الأزهر بإحالة قضية الردة إلي لجنة فرعية بدلا من مجمع البحوث الإسلامية ولعلها تكون لجنة مستنيرة لها باع من الثقافة والفكر والفلسفة حتى لا تصدر إلينا أحكام الجاهلية العربية مرة أخري فكفانا تشويها لنا. ولأنه رجل مستنير يعرف كثيرا ويقول قليلا فان المزايدة الوهابية داخل المجلس ممن الفت قلوبهم وهابيا جعلته حصيفا حماية للموروث الإسلامي ولعدم بلبلة الأمر في الشارع. لكنه موقف رغم حصافته ليس بكاف فالتغيرات العالمية وقذائف العولمة والتحديث لن تتوقف والحريات المدنية كمنجز ليبرالي رأسمالي وحداثي لن يتوقف، وعليه فالاصطدام سيتجدد شاء من شاء وابي من ابي ربما في قضايا أخري أكثر أهمية ولا سبيل للأزهر من مقارعتها.