المسيحيون العرب..طليعة النهضة وهمزة وصل التقدم

طارق عثمان*

 

 قال نوبار باشا وهو أحد أبرز موظفى الحكومة "وهو أول رئيس وزراء لمصر فيما بعد" وقد أقامت أسرته فى مصر منذ بداية القرن التاسع عشر: "فى ظل خطوات كهذه، فإن حكمة ورؤية سيادتكم سوف تجعل مصر قادرة على قيادة الحداثة فى الشرق". والمخاطب فى هذه العبارة هو خديوى مصر وكانت المناسبة هى افتتاح دار الأوبرا بالقاهرة عام 1869 وكانت رابع دار أوبرا فى العالم بأسره، وأول دار أوبرا فى الشرق الأوسط وافريقيا واسيا.

ولم يكن نوبار باشا –بعيدا عن محاباته للحاكم– مبالغا. فلقد كان هذا العصر واحدا من العصور التى تقدمت مصر فيه تقدما اجتماعيا عظيما وقد شهد تأسيس المؤسسات التعليمية الجديدة والمصانع ودور النشر التى قامت بترجمة الكتب الأجنبية وكذلك تأسيس الهيئات الثقافية. ولقد كان نوبار باشا واحدا ممن كان لهم السبق فى هذه الموجة من الحداثة؛ كقادة المجتمع ورجال الأعمال وكبار رجال الدولة الذين ساعدوا أسرة محمد على الحاكمة فى مصر واسياد النظام الاقطاعى فى لبنان وباشوات تونس "والعديد من قادة الدول العربية الأخرى" الذين ساعدوا فى تقدم بلادهم للأمام. ولقد كان نوبار باشا مسيحيًا كالعديد من هؤلاء النجوم "وكان من أصل أرمنى".

لقد كان المسيحيون العرب فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لا سيما فى مصر وبلاد المشرق فى طليعة النهضة العربية التى قادت الدول العربية نحو صحوة اقتصادية وثقافية. لقد أثارت أوروبا عملية النهضة هذه لا سيما عن طريق انفتاح العالم العربى القوى على العالم الحديث ألا وهو فرنسا.

قوة إبداعية

لقد وقعت معظم هذه النهضة فى القاهرة والاسكندرية، فعلى سبيل المثال قامت الاسرة المسيحية العربية – تاكلا – بتأسيس جريدة الأهرام عام 1875 وهى الجريدة المصرية اليومية الرائدة "وكانت رائدة فى العالم العربى أيضا لعقود من الزمان". لقد شهدت نفس هذه الفترة تقريبا ولادة السينما العربية والمسرح وكان من نتيجة هذه السينما العربية والمسرح ظهور مجموعة من الفنانين العرب المسيحيين البارزين أمثال جورج عبيد. وكذلك وصول ثانى آلة طبع فى الشرق الأوسط إلى مصر مع نابليون عام 1799 "وكانت الأولى فى لبنان عام 1589".

ولقد كان المسيحيون العرب هم أول من تصور جامعة فؤاد الأول "جامعة القاهرة فيما بعد" وهى أول مؤسسة تعليمية فى العالم العربى على الطراز الغربي. ناهيك عن "دار الحكمة" وهى رمز من رموز القرن التاسع عشر التعليمية التى أسسها وقام بتمويلها المسيحيون العرب. وكان المسيحيين العرب أمثال سلامة موسى وعبد الأنور باشا من أرشدوا عن الانتقال المفاجئ من النظام التعليمى الدينى إلى نظام تعليمى ليبرالي.

ولقد كانت المرافق الصناعية الآلية ودور الترجمة والمصارف الأولى فى المنطقة هى أيضا وليدة أفكار المسيحيين العرب خاصة فى مصر وبلاد المشرق. على سبيل المثال نجد أن معظم الشخصيات الرائدة فى الاقتصاد المصرى هى شخصيات مسيحية من صعيد مصر أو أبناء العائلات الأرمنية والمشرقية التى أقامت فى مصر منذ عقود من الزمان.

لقد لمس المجال السياسى والقانونى والثقافى و الاقتصادى الاجتماعى مدى تأثير إبداع المسيحيين العرب. كما أن نفوذهم اقترب من الوسط السياسى لمجتمعاتهم فى القرن العشرين عندما قامت العائلات المسيحية الرائدة "مثل عائلة الأندراو وعائلة غالى فى مصر وعائلات عيضة وخازان بالمشرق" بتقديم المستشارين الملكيين. وكان أول من دعا إلى تطبيق المفهوم الحديث للحكم المدنى وفصل الدولة عن المؤسسات الدينية هم شخصيتين مسيحيتين رائدتين من لبنان وهم السياسى البارز "إيميل عيضة" والرئيس السابق للكنيسة وهو "البطريرك أريدا".

لقد كان حزب "الوفد" فى مصر وحزب "البعث" فى المشرق من أهم الأحزاب السياسية العربية الرائدة فى معظم العقود المتذبذبة فى القرن العشرين والتى أشعلت إلى حد كبير الصراع ضد الاستعمار الأوروبى وتأسيس القومية العربية ؛ فلقد كان قادة هذه الأحزاب شخصيتين مسيحيتين عربيتين بارزتين ألا وهما "مكرم عبيد باشا" فى مصر و "ميشيل أفلاق" فى المشرق.

همزة الوصل

لقد لعب المسيحيون العرب دورا بارزا فى تطوير المنطقة لقرن كامل من الزمان منذ فجر النهضة العربية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر وحتى ذبول الليبرالية فى العالم العربى منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين. لقد فاق وجودهم حدود العالم العربي؛ شمال افريقيا "لا سيما تونس" والعراق التى بها مجتمعات مسيحية مؤثرة وفاعلة. لقد كان بروز الشخصيات والعائلات المسيحية مؤشرًا ظاهرا للعديد من الحقائق المهمة وهى أن المسيحيين العرب هم جزء لا يتجزأ من نسيج مجتمعاتهم، وأنهم يرون مجتمعاتهم التى ولدوا وتربوا فيها البيئة الطبيعية لهم من أجل تعزيز وظائفهم وثرواتهم ، وأن المجتمعات العربية هى مجتمعات متسامحة بطبيعتها، وأن هذه المجتمعات العربية اتحدت مع بعضها البعض عن طريق الاعتقاد المشترك بالانتماء لبلد واحد بغض النظر عن الدين، وأن الهوية الشخصية يتم تحديدها إلى حد كبير عن طريق الانتماء الوطني، لقد غرست الهوية والانتماء التماسك.

لقد لعب المسيحيون العرب منذ قرون من الزمان العديد من الأدوار الحيوية فى مجتمعاتهم، على سبيل المثال، كانوا همزة الوصل الثقافية بين الحضارة الاسلامية السائدة فى الشرق وبين أوروبا، وكانوا أدوات التقدم، وممثلى التنوع الدينامى فى قلب العالم الاسلامى وكانوا بوتقة الثراء والتعدد فى الهوية العربية أيضا.

"أنا مصرى بالجنسية، مسلم بالثقافة" هذا هو الشعار المشهور للمسيحى المصرى مكرم عبيد باشا ولعل هذا الشعار هو أبرز وأوضح تعريف لرؤية المسيحيين العرب المستنيرين لهويتهم وانتسابهم الثقافى ودورهم الاجتماعي. لقد أدرك عبيد باشا الذى انتخب عضوا فى البرلمان المصرى لأكثر من ست مرات أن العالم العربى هو عالم اسلامى بالتاريخ والديموغرافيا ومع ذلك أكد أن المسؤولية التى حملها المسيحيون العرب هى حماية الحضارة الاسلامية من خطر العزلة والانسحاب وفتحها على العالم والقيام بدور الجسر الثقافى بينها وبين الغرب.

التيار الإسلامى والتيار المسيحي

يتضاءل دور المسيحيين العرب فى هذه الايام والسبب وراء هذا التضاؤل هو اجتماع عدد من العوامل منذ سبعينيات القرن العشرين منها ذبول "إن لم يكن هزيمة" القومية العربية والصعود المفاجئ للتيار الاسلامى "Islamism" وانتشار حركة التبشير "الوهابية السعودية" المتحمسة والتى تساندها ثروة غير مسبوقة وإعادة توجيه ملايين المصريين ومواطنى المشرق الذين سافروا إلى الخليج سعيا وراء فرص عمل أفضل.

ونتيجة لهذه العوامل المتراكمة كان التغير فى عقلية العالم العربى وهى تراجع القومية وترك مساحة عظيمة للدين وتراجع الهوية الوطنية وتقدم الهوية الدينية واستبدال التقاليد التى استوردت من الغرب أثناء عقود الحداثة والتنوير تدريجيا بالقيم الدينية كالروحية والمحافظة وكذلك أصبح الاسلام السياسى هو القوة التى أصبح الشباب يرتبط بها ويدعو لها.

وبمجرد انسحاب القوى الليبرالية الفعالة وتهميش المنتديات والاجتماعات، قامت المجتمعات العربية "مصر والاردن وفلسطين والجزائر ومجتمعات أخرى" بتغيير وجهتهم من باريس ولندن إلى الرياض والكويت وأبو ظبي. علاوة على ذلك، فإن هيمنة التيار الاسلامى ""Islamism عمت فى كل مكان، ولكن هناك صعود قوى مماثل للتيار المسيحى "Christianism" وهو عبارة عن قوة اجتماعية دفاعية محافظة تهدف إلى الحفاظ على هويتها واسلوبها فى الحياة ضد التيار الاسلامي.

وهذا بعيد تماما عن التحررية القديمة. ولقد تحللت المجتمعات العربية على أساس الدين بين هذين التيارين، التيار الاسلامى والتيار المسيحي. وخير شاهد على هذا التحلل، على سبيل المثال، هو التضاؤل السريع للمؤسسات التاريخية فى المجتمع المدنى فى مصر "اتحادات التجارة والجمعيات المهنية والنوادى الاجتماعية والجمعيات الخيرية" عندما تواجه النمو الزائد للقوة الدينية. وما هو ملفت للنظر أيضا هو رؤية الصعود الدرامى لنفوذ المؤسسات الدينية فى وسائل الاعلام والجامعات، ومنذ الربع الأخير من القرن العشرين سيطرت الجامعات ذات التوجه الاسلامى وباستمرار على نقابات المحامين والمعلمين والمهندسين والاطباء والصحافيين "وكذلك اتحادات الطلاب فى جميع الجامعات الرئيسية".

يمثل الأقباط نسبة 15 بالمائة من نسبة السكان فى مصر، ودين المسيحية دين متماسك قائم على التجمعات التى نشأت فى المؤسسات التعليمية الخاصة والشركات متوسطة الحجم والمهن المتخصصة، وتربطهم روابط قوية بالكنيسة. كذلك استطاعت مدارس الاحد ان تسترد نفوذها بعد أن تراجعت فى فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وتعاظمت كذلك الجرائد المسيحية والنوادى الاجتماعية المسيحية والجمعيات الخيرية المسيحية. وفى نفس الوقت بدأت النزعة الطائفية تكتسب بعدًا خطيرًا للغاية.

ففى عام 2006 كانت إحدى المسرحيات التى ادعى البعض أنها تسخر من الاسلام كانت سببا فى نشوب صراعات طاحنة فى الاسكندرية، وكذلك اهتداء سيدة مسيحية للاسلام أشعل شغبًا عنيفا ومقالات نارية، واشارة قوية لاستياء البابا القبطى المصرى "فى عام 2007 أثارت محاولة تحويل ديانة احد المسلمين إلى المسيحية نفس مشاعر الغضب هذه".

تراجع الانتماء

ليس هناك انذار بوجود شقاق طائفى فى مصر ولكن تمر الدولة بانسحاب الجزء الرئيسى من مواطنيها الاقباط من قلب الحياة الاقتصادية الاجتماعية. هذه الظاهرة والظاهرة المرتبطة بها وهى الهجرة وتجمع الاقباط لا يبشران بخير للمجتمع المصرى بأسره. إن انحطاط المشاركة الفعالة للأقباط العرب فى السياسة والحركات الاجتماعية المحورية فى الدولة لهو خسران عظيم وذلك بسبب الثقل الديموجرافى للمجتمع ولأن هذه الظاهرة تمثل تراجعا من المشاركة الفعالة التى لا يستطيع المجتمع العربى الذى يعانى العديد من مشاكل التطور أن يتحملها.

ما زال الاقباط العرب يمتلكون قوة اقتصادية متناسبة مع كل المجتمعات التى لهم فيها وجود "التجربة المأساوية للعراق تعتبر حالة خاصة". وبالرغم من ذلك تم تقييد هذه القوة الاقتصادية فلم تتم ترجمتها إلى مشاركة فعالة فى تشكيل مستقبل المجتمع. ولكن ما يحدث هو العكس تماما فى حقيقة الأمر فلقد تم تمرير مصالح الاقباط المهمة باستمرار خارج أوطانهم.

التحدى الجديد للتنوع

إن تضاؤل دور الاقباط ليس مشكلة مصرية فحسب، فلبنان تواجه تحديًا كبيرًا فى بناء الروابط الحقيقية بين مجتمعاتها العقائدية المختلفة. لقد شهدت العقود الزمنية منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين حربًا أهلية مدمرة وحروبا مع اسرائيل انقسامات طائفية حادة والصعود الدرامى للتيار الاسلامى Islamism "لا سيما حركة حزب الله" كل هذه العوامل ادت إلى ازدياد الوعى الذاتى المسيحى اللبنانى وتأكيد الذات. لقد تم تهميش دور أقباط سوريا وفلسطين والأردن واليمن تهميشا حادًا. أما أقباط العراق فهم ببساطة يتركون بلادهم فهناك أكثر من 200000 فرد تركوا البلاد منذ بداية الحرب عام 2003 وقليل منهم سيعود.

لقد كانت كلية البروتستانت السورية هى أول مؤسسة على الاطلاق فى بيروت لتعليم الكتاب المقدس باللغة العربية مما أدى فى الحقيقة إلى "تعريب" المسيحية الشرقية ودمجها فى الثقافة العربية وكذلك نسج النزعة العربية "Arabism" فى المسيحية الشرقية. ويبدو أن المؤسسات العظيمة تحتفظ بعظمتها، فلقد استمرت هذه الكلية التى تحولت الآن إلى "الجامعة الامريكية فى بيروت" لسنوات طوال فى التنوير والتثقيف و الإلهام فكان "إدوارد سعيد" من بين مفكريها الرواد القبطى العربى الذى خلق اسلوبا جديدا لرؤية كل من الشرق والغرب من الجانب "الآخر" والذى ظل رمزا للجسر الثقافى بين العالم العربى والعالم الغربي.

التنوع هو رمز الثراء ومصدر الحيوية فى المجتمعات. فلقد كانت الأندلس رمزا اجتماعيا تنويريا للعرب والاسلام فى عصور اسبانيا الوسطى. وكان لهذا أثره عندما كان مجتمعا مزدهرا ضم المسلمين والاقباط واليهود وكان مجتمعًا متفتحا لقبول الافكار الابداعية والليبرالية والتقدمية وكان مجتمعًا متسامحًا. فلقد أثبت الاسلام على مدى تاريخه أنه دين يدعو إلى التقدم لدرجة احتوائه بل وتنشئة "الآخر".

ولا ريب أن القوى السياسية الاسلامية سوف تستمر فى زيادة تأثيرها الهام على مستقبل العالم العربى من الخليج حتى المغرب. أما الاختبار الحقيقى هو هل سيقدر الاسلام السياسى – عند غلبته – دور الأقباط العرب ودفعهم لدور الشريك الكامل أم لا، وهل سيظل الاقباط العرب يريدون القيام بهذا الدور أم لا؟!

* رجل أعمال مصرى مقيم فى لندن، والمقال ظهر فى الأصل فى موقع "اوبن ديموكراسي".

 


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com