هل نحذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومى؟ 

Watani 

حسين احمد امين- القاهرة
فى رواية -عمارة يعقوبيان- تؤدى خانة -مهنة الوالد- فى الاستمارة التى قدمها طه الشاذلى للالتحاق بكلية الشرطة مهمة مساعدة اللواءات الثلاثة فى لجنة كشف الهيئة بالكلية على استبعاد الأشخاص غير المرغوب فى التحاقهم بدون الاضطرار إلى إبداء الأسباب صراحة.

 وقد كان السبب فى استبعاد طه الشاذلى- رغم اجاباته السليمة عن أسئلة اللجنة - هو ما ورد فى خانة -مهنة الوالد- من أن أباه -حارس عقار-، أو بالأحرى -بواب-.
كذلك فإنه من بين المهام الرئيسية التى تؤديها خانة -الديانة- فى بطاقة الرقم القومى مساعدة أصحاب الشأن فى بعض الأحيان، على رفض طلب المتقدم بالبطاقة، بسبب ديانته المسيحية فى أغلب الحالات، دون الاضطرار الى ذكر السبب، وكأنما الديانة هنا أمر عابر لا دخل له بالموضوع.
صحيح أن الديانة كثيرا ما يدل عليها اسم الشخص دون حاجة إلى ذكرها، كما فى مرقص أو أحمد، غير أن هناك أحوالا كثيرة لا يفيد فيها الاسم فى الدلالة عليها، كما فى عادل أو منير، وقد كانت ثمة حقبة حرص الأقباط فى مصر أثناءها على استبعاد الأسماء القبطية عند تسمية أبنائهم وبناتهم للتقليل ولو بعض الشيء من فرض التمييز ضدهم. وهنا يكون -ذوو الشأن- فى حاجة أكبر إلى الرجوع إلى خانة -الديانة- فى البطاقة أو فى شهادة الميلاد.
فما سر هذه الحاجة؟
أذكر أنى حين التحقت سكرتيرا ثالثا بالسفارة المصرية فى موسكو، اسندت الى مهمة الأمن والرمز، وهى مهمة ثقيلة، أو وجدتها كذلك، فطلبت من الوزير المفوض اعفائى منها. أجاب فى دهشة: فإلى من نسندها إذن؟ فذكرت اسم الملحق الذى يلينى فى درجة أدنى. قال الوزير المفوض وهو على دهشته: ولكنه مسيحى! فقلت: وما فى ذلك؟ أجاب: ألا تعلم أنه لا يجوز، لاعتبارات أمنية، أن يتولى مسيحى مهام الرمز والأمن فى السفارات؟
هو عرف لا تذكره، ولا تجرؤ أن تذكره لائحة. ولكن الأخذ به شائع فى وزارات شتى من بينها وزارة الخارجية وفى المجالس النيابية، إلى آخره، على أساس حجة لا يفصح عنها احد جهرا، وهى أن الثقة فى ولاء الأقباط لمصر أدنى من الثقة فى ولاء المسلمين. وهى حجة كفيلة وحدها، دون أى أمر آخر، بزعزعة هذا الولاء لدى الأقباط، لولا أن قدر الله أن يكون ولاء الأقباط لمصر قائما على أساس أمتن وأحكم من أن تؤثر فيه اعتبارات وأوهام لدى بعض المسلمين.
أوهام قد لا تؤثر فى ولاء، ولكنها بالتأكيد تخلق المرارة والعداء. وعن هذه الأوهام من جانب، والمرارة من جانب آخر، ينشأ خطر يهدد الجميع، هو أن نعيش فى بيت قد انقسم أهله على أنفسهم، ولا يغطى سقفه غير جزء من مساحة ارضه.
وجود خانة للديانة فى تلك البطاقة يذكرنى بفرض ارتداء ملابس معينة تميز أهل الذمة عن المسلمين فى عهود بعض خلفاء العصر العباسى الثانى، او وضع شارات معينة تميز اليهود فى زمن هتلر سواء فى المانيا او الاقطار التى خضعت لحكم النازيين. وربما كانت اقطار اوروبا لهذا السبب اسبق الدول الى اعتبار مطلب ذكر الديانة فى البطاقات وجوازات السفر والأوراق الرسمية بمثابة اهانة لحرية الرأى والعقيدة، وتدخل فيما لا يعنى صاحب المطلب الذى ليس بأهل لأنه لا يجاب إلا بعبارة -Non of your business- هذا ليس من شأنك.
وقد كانت ثمة دواع أخرى دفعت الأوروبيين الى هذا السبق، وهو ماشهدته قارتهم من حروب دينية رهيبة فى العصور الوسطى ومستهل العصر الحديث بين انصار الفرق والمذاهب المسيحية المختلفة، كل منهم يعبد الإله نفسه، ويمجد المسيح الداعى الى المحبة والغفران، غير أنه ينتحل لنفسه صفة الإله، ويرى تأويله للدين هو وحده التأويل الحق، وتأويل غيره باطلا لابد من مقاومته بالسيف. وقد كان أشهر هذه الحروب تلك التى جرت فى فرنسا بين عامى 1562 و1598 بين الكاثوليك والهوجونوت البروتستانت، وهى التى دفعت مآسيها مفكرا مثل مونتنى الى أن يتبنى فى مقالاته فكرة التسامح وكراهة التعصب الدينى، ثم تبعه آخرون فى أقطار أوروبية خارج فرنسا، أشهرهم سبينوزا فى هولندا، وجون لوك فى انجلترا، واعقبهم آخرون ثأروا على الديانات بأسرها، إذ رأوا أن ضحايا الحروب التى تسبب فيها الدين وتسببت فيها محاكم التفتيش يفوق عددها عدد ضحايا جميع الحروب الأخرى منذ فجر التاريخ وحتى نهاية القرن الثامن عشر.
- - -
حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومى مطلب لن يضير الدين فى شيء. وهو قائم على أساس أن إيراد خانة للدين بالبطاقة هو من بقايا ما قبل العولمة. والواقع أننا طالما لمسنا فى العالم المسيحى، والعالم الإسلامى، وفى غيرهما، أن أفضل العلاقات بين أفراد الطوائف الدينية المختلفة هى تلك التى تسود بين الملحدين ممن تلاشت لديهم العقيدة، وجمع بينهم الشك فى صحة الأديان جميعا.. هنا يختفى التعصب وضيق الأفق، والشك المتبادل والحيطة والحذر، ويصبح من المتصور ومن الممكن أن تقوم الصداقة الحرة، والألفة الحقيقية، حين يكون شعارهم بيت الشاعر القروى:
سلام على كفر يوّحد بيننا
وأهلا وسهلا بعده بجهنم!
وربما وافقنى الكثيرون على أنه من المؤسف أن يكون للإلحاد مثل هذا الفضل ولا يكون للعاطفة الدينية، وأنه من المحزن أن نرى المتدينين فى جميع الطوائف وقد غلبت عليهم مشاعر الشقاق والمرارة والشك إزاء متدينى الطوائف الأخرى، فى الوقت الذى تجابه الأديان جميعا قوى عاتية تعارضها وتسعى إلى هدمها، تتمثل فى المادية المفرطة، ونمط الحياة المعاصرة، والتهافت على الاستهلاك. إلخ.
وقد زاد عدد أولئك الذين بات الدين لا يلعب دورا كبيرا أو صغيرا فى حياتهم، ولا يعرفون القيم الدينية التى هى إحدى الوسائل المهمة لمقاومة فقر الحياة الروحية فى العالم الحديث. فبدون هذه القيم يصعب أن يكون ثمة سلوك متجانس، ويضحى سلوك الفرد فى أغلب الأحيان مجموعة من التصرفات وردود الفعل لا رابط يجمع بينها.
وقد أحست الكنائس المتصارعة فى الغرب بهذا الخطر الذى بات يتهددها جميعا، فسعت بقدر كبير من النجاح إلى رأب الصدع بينها، وفتح الحوار من أجل إقامة جبهة متحدة ضد العدو الحقيقى، بل ومدت يدها إلى اليهودية وإلى الإسلام للمشاركة فى الدفاع، وأعلنت أن المطلوب هو مجرد احترام الدين فى حد ذاته، وتقدير العاطفة الدينية حيثما وجدت، وأيا كان موضوعها، فى سبيل إحداث التقارب، وتحقيق التلاقى.
غير أن ثمة شرطا جوهريا هو أن يستقر فى النفوس مبدأ أساسى مفاده أن كل رؤية دينية تحمل جانبا من الحقيقة لم تركز عليه سائر الرؤى، وأن ثراء الروح البشرية والفكر الإنسانى هو فى الاطلاع على كنه تلك الرؤى المتباينة، ومحاولة الغوص إلى أعماقها للاستفادة من الجديد والفريد الإبداعى المتميز فيها، وأن معيار رقى الفرد وعظمته الروحية هو مدى فهمه وتوقيره لجميع ضروب الفكر التى أسهمت فى تشكيل البشرية.
هنا فقط يمكن أن يكون الحوار بين الأديان مجديا، وذلك حين يكون هناك إدراك لحقيقة أن الاستفادة لا الانتصار على -الخصم- هى ما ينبغى أن تدور المناظرة من أجلها، وما من شأنه أن يهيئ أنسب مناخ للحوار. أما الرغبة فى الانتصار والإفحام، وفضح حجج الخصم وتفنيدها، فلا مفر معها من لجوء المحاور إلى إخفاء الحقائق، وإلى الاختراع والتلفيق، وإلى الكذب.
إن خطأ المتعصب لا يكمن فى اعتقاده بأن دينه هو أفضل الأديان، وإنما يكمن فى عجزه عن إدراك ما يدور بين الله وروح المؤمن من اتباع الديانات الأخرى وإن لم تكن سماوية وعن فهم حقيقة أنه ليس ثمة دين خاطئ إن كان معتنقوه يرونه كافيا لسد احتياجاتهم الروحية والحياة الفاضلة على هديه. كذلك يكمن خطأ المتعصب فى عزله نفسه عن الجوانب الايجابية فى الأديان الأخرى، واتخاذه معتقده مقياسا للحكم على معتقدات الآخرين. ومن هنا تأتى أهمية التلاقى. فما تلاقى الأديان غير مظهر واجب آخر من المظاهر المتزايدة لتلاقى الحضارات والشعوب فى عصرنا هذا. ولا يعنى ذلك مطالبة أتباع أى دين بإطراح أية حقيقة جوهرية فيه، وإنما يعنى تجاوزنا الاستماع فى صبر، والجدال فى أدب، إلى التفتح الذى يمكننا من الاستفادة والتعلم من الآخرين بل وإلى تصحيح بعض مفاهيمنا عند الضرورة وبين الرمزى وغير الرمزى، ثم إعادة صياغة الجوهرى، وإعادة تفسير الرمزى.
وهنا يكمن الأمل فى أن يدرك هؤلاء وأولئك أن إقدام المرء على تعميق فهمه لدينه هو، وأن المتدين الحق ليس من كان بوسعه تفنيد الأديان الأخرى، والسخرية من معتقدات أهلها كما يفعل بعض الدجالين فى كتاباتهم وبرامجهم التليفزيونية والإذاعية، وإنما المتدين الحق هو من كان بمقدوره أن يميز الحقائق الواردة فى الديانات المتباينة، ثم ينتقل بعدها إلى ما هو أبعد من ذلك.
نعود بعد هذا الاستطراد إلى ما ذكرناه فى البداية من أن مهمة خانة الديانة فى بطاقة الرقم القومى هى فى الأساس مساعدة أصحاب الشأن على رفض طلبات بعض المتقدمين دون اضطرار إلى ذكر السبب. غير أن هذه ليست بالمهمة الوحيدة. هناك مثلا ضرورة اطمئنان موثقى عقود الزواج إلى أن المتقدم للزواج من مسلمة هو من دينها لا من دين آخر وذلك وفق ما قضت به آية مدنية من القرآن الكريم، رغم أن الآية لا تتامشى مع ما نص عليه الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عن حق الجميع من الذكور والإناث فى الزواج ممن شاءوا دون اعتبار لاختلاف الدين.
وللتصدى لهذه الإشكالية نقول:
أولا: إنه يمكن المطالبة بتقديم شهادة الميلاد أو ما يماثلها لاستيضاح الديانة.
ثانيا: إن خانة الديانة هى إحدى خانات قليلة مذكورة فى بطاقة الرقم القومى، وثمة معلومات عديدة أخرى فى البطاقة لا تظهر للأعين وبمقدورنا أن نجعل الديانة من بينها دون أن تتسبب فيما تتسبب أحيانا فيه لصاحب الشأن من حرج اجتماعى.
ثالثا: إن المفكر السودانى الكبير محمود محمد طه فى كتابه -الرسالة الثانية من الإسلام- ذهب إلى أن النظرة المتمعنة فى محتوى القرآن والسُنة تكشف عن مرحلتين لرسالة الإسلام: المكية والمدنية. والرسالة فى المرحلة الأولى هى الرسالة الخالدة والأساسية، رسالة تؤكد الكرامة الأصيلة لجميع البشر دون اعتبار للجنس أو العراق أو العقيدة الدينية أو غير ذلك. وقد تميزت هذه الرسالة بالتسوية بين الرجال والنساء، وحرية الاختيار الكاملة فى أمور العقيدة، وليس ثمة آية مكية واحدة وحكم واحد من الأحكام التى تتضمنها السور المكية مما نجد فيه تعارضا مع مواد الإعلان العالمى لحقوق الإنسان. وبالتالى فإن الأخذ بحقيقة أن المرحلة المكية نجمت عنها الرسالة الأساسية والخالدة يمكن أن يوفر الحلول لمعظم المشكلات التى تكتنف موضوع تطبيق الشريعة فى إطار إسلامى.
وإذ رفض المشركون هذا المستوى الرفيع للرسالة، وبدا واضحا أن المجتمع ككل لم يكن مستعدا للأخذ به، جاءت الرسالة الأكثر واقعية فى الفترة المدنية ونفذت أحكامها. وعلى هذا فإن جوانب رسالة الفترة المكية التى لم تكن قابلة للتطبيق العملى فى السياق التاريخى للقرن السابع الميلادى، علقت وحلت محلها مبادئ أكثر عملية. غير أن الجوانب المعلقة من الرسالة المكية لم تضع إلى الأبد باعتبارها مصدرا للشريعة، وإنما أجل تنفيذها إلى حين توافر الظروف المناسبة فى المستقبل.
وعند الأستاذ محمود طه أن الفقهاء القدامى من مؤسسى صرح الشريعة الإسلامية جانبهم التوفيق إذا فسروا مبدأ النسخ فى القرآن والسنة على أساس أن النصوص اللاحقة منهما أى فى الفترة المدنية تنسخ أو تلغى جميع نصوص الفترة المكية السابقة التى تبدو متعارضة معها.
والسؤال الذى ينجم عن هذا هو ما إذا كان مثل هذا النسخ دائم المفعول، بحيث تبقى النصوص المكية الأقدم غير معمول بها إلى أبد الأبدين.
ويذهب محمود طه إلى أن هذا القول مرفوض بالنظر إلى أنه لو صح لما كان ثمة معنى للإتيان بالنصوص الأقدم. كما يذهب إلى أن القول بأن النسخ أبدى يعنى حرمان المسلمين من أفضل جوانب دينهم. وبالتالى فهو يقترح تطوير أسس الشريعة الإسلامية، وتحويلها عن نصوص الفترة المدنية إلى نصوص الفترة المكية السابقة عليها. ويعنى هذا أن المبدأ التأويلى فى التطوير لا يعدو أن يكون عكسا لعملية النسخ. بحيث يصبح بالإمكان الآن تنفيذ أحكام النصوص التى كانت منسوخة فى الماضى، ونسخ النصوص التى تطبقها الآن الشريعة التقليدية، وذلك من أجل تحقيق القدر اللازم من إصلاح القانون الإسلامى.
أما فيما يتعلق بحالة اختلاف المذهب بين الزوجين المسيحيين وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فى حالات الطلاق والميراث.. إلى آخره، فإن خانة الديانة فى بطاقات الرقم القومى للمسيحيين لا تنص على المذهب، وبالتالى فلا إشكالية فى حالات الاختلاف.
وختاما نقول: إن حذف خانة الديانة من بطاقة الرقم القومى يحل فى رأينا جزءا من المشكلة دون أن يحل المشكلة بأسرها.. سيجنب البعض ما قد يشعرون به من حرج اجتماعى عند إبراز البطاقة، ومن حساسيات، وسيضطر الحذف كل الأطراف إلى محاولة النظر إلى الأطراف الأخرى باعتبارها بشراً دون توصيفهم أو وضعهم فى خانات. وهو انجاز لا يستهان به. غير أنه قد يكون من المطلوب أيضا من معرفة -الديانة- أمور تشبه المطلوب من معرفة الحالة الاجتماعية، أو الجنس أو حتى عنوان الإقامة.. غير أنه من المفيد أن نؤكد فى النهاية أنه من الضرورى، فى حالة اتخاذ قرار بحذف خانة الديانة، العمل على أن تستقر فى الأذهان بصورة قطعية فكرة أن هذا القرار لا يضير الدين ولا يمس أسسه، ولا هو انتصار للإلحاد، وإنما هو من أجل صالح العلاقات الطائفية والاستقرار الاجتماعى وتصحيح الوعى الدينى.
إن الاختلاف فى العقيدة والفكر أمر أقتضته الإرادة الإلهية. وكذا فى رأينا تجنب إجبار الفرد على المجاهرة أمام الآخرين بديانته. ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وفى آية أخرى ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين.


2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com