Print
أرض النفاق 
بقلم/ لبنى حسن* 

السواد الأعظم من النساء في مصر أصبحن أشبه بمشجعي فرق كرة القدم فلا ينقصهن سوى المدرجات، و بمنتهى السهولة تستطيع معرفة إلى اى فريق تنتمي كل واحدة بعد أن صارت الطائفية سلوك و مظهر و تفنن في الشارع المصري، و الغريب أن إبراز الرموز الدينية أصبح تقليد قومي بين

 النساءبشكل عام- يحرصن على إظهاره و كأنه علم عليهم رفعه عاليا، و الملفت للنظر إن هذا لم يعد مقتصر على من يرتدين غطاء الوجه أو الشعر بكل أنواعه ( حجاب، خمار، إسدال الخ) أنما أيضا امتد لغير المحجبات سواء كن مسلمات أو مسيحيات فكل واحدة يتدلى من رقبتها بوضوح علاماتها...عفوا رمزها

-...

و لعل أول ما لفت نظري لهذه الظاهرة أن كلما ذهبت إلى مكان في مصر ( شارع، محل، وسيلة مواصلات، مطار، مبنى حكومي....الخ) أو تحدثت مع غريب و جدته ينظر فورا لرقبتي متفحصا ما يتدلى منها بعد أن صرت من القلة القليلة اللاتي لا تسايرن الركب المبارك، و لكن عندما لا يجدوا ضالتهم تبدأ أسئلة ذات طابع فضولي خبيث تتحاشى المباشرة و لكنها ترمى إلى معرفة ديانتي، و كم أستمتع حينما أزيد فضولهم و أضيف لحيرتهم بردود محايدة تماما.

 قد أتفهم ازدياد حجم و انتشار الصلبان المتدلية من الأعناق في الشوارع مقارنة بالماضي فالأرجح انه رد فعل لانتشار الحجاب و أخواته و لكنى لم أفهم معنى إصرار المسلمات السافرات على إبراز رمز ديني أيضا، و كأن الأمر أصبح واجب وطني و ثقافة مصرية تكرس أهمية التمييز، و هذا يدفعني للتساؤل هل حقا يجب أن نعطى الأولوية للمطالبة بإزالة خانة الديانة من البطاقة المخبأة في الجيوب؟ أم أن تغيير ما بالأوراق و بالرغم من أهميته أسهل كثيرا من تغيير المفاهيم و التقاليد الجديدة التي صارت تشكل ثقافة و بالتالي تتطلب جهود كبيرة و سنوات طويلة لتعديلها. 

 مع مرور الوقت أصبحت على قناعة بأن انتشار الحجاب و ما شابه في مصر ما هو إلا رمز بلا اى معنى حقيقي و ما يؤكد هذا هو تكرار موقف كنت أظنه في البداية صدفة أو حالة فردية و لكن كثرة مشاهدتي له في أوقات متفرقة و مع فئات عمرية مختلفة جعلني افهمه بشكل مختلف فاعتدت عليه و استوعبت الأمر، هل تتخيلوا أن لدى مصفف الشعر (الكوافير) و أغلب العاملين رجال هناك زبونات كثيرات يدخلن محجبات بل و منقبات ثم يخلعن كل هذه الأقمشة حتى الملابس ذات الأكمام الطويلة و يتعاملن بشكل عادى جدا مع هؤلاء الرجال فيسمحوا لهم بصبغ و تصفيف شعورهن وفي النهاية يخرجن كما جاءوا!!!! 

قد لا تصدقوا ومعكم كل الحق، فانا أيضا لم أصدق في المرة الأولى ولكنى على استعداد لاصطحاب من يشاء إلى هناك و في اى وقت من العام، فيكفى أن تقضى ساعتين في الانتظار لترى عجائب الدنيا و تشاهد بعض هؤلاء السيدات و هن يمتدحن و يشكرن المصفف و مساعديه الرجال ثم يضعن الزى الرسمي (الطرح) بل أحيانا تجعله هو يساعدها استعداد للمغادرة، وكأن نظر الرجال في الشارع لشعورهن حرام أما عمل أكثر من رجل في شعورهن لساعات هو أمر عادي. 

وقد يبرر لي احد الأفذاذ هذا التصرف بأن كل الكوافيرات رجال ولكن نظرة سريعة على مراكز التجميل والمحال تجعلنا نكتشف أن العكس هو الصحيح، وقد يبادر أخر للتوضيح بأن الكوافير كالطبيب مثلا و هذه مهنته فلا مشكلة ولكنى أؤكد لكم أن الأمر ليس كذلك ففي احد المرات تعطل مكيف الهواء فتم استدعاء الصيانة ودخل أربع فنيين (رجال طبعا) لتصليح المكيف وكانت هؤلاء السيدات أصحاب الحجاب و أخواته سافرات و لم يهتز لهن رمش بل أن بعضهن أخذن في التحدث والهزار مع العاملين وكن يتصرفن بشكل طبيعي. 

وقبل أن يتعلل آخر بان محل الكوافير الذي أذهب إليه تحديدا مشبوها لا سمح الله فيجب علي أن أفصح أن الفضول وربما الصدفة دفعوا بي لاستكشاف تلك الظاهرة على نطاق أوسع فجربت أماكن مختلفة ووصلت لنفس النتيجة، فالكثيرات يغطين شعورهن تماشيا مع الجو العام وهو ما أصبح يعرف بين النساء بحجاب "ضغط المجتمع" وبالتالي هو ليس زى طائفي فقط كما كنت اعتقد بل انتشاره جعل منه زى شعبي في المرتبة الأولى، قد يكون تطور "الملاية اللف" مثلا ولا يعنى بالضرورة اى انعكاس على سلوكيات من يرتدونه أو حتى اى علاقة بالدين و التدين، فعندما تسير القافلة في اتجاه يصعب التخلف عنها ولو ظاهريا فيرتدين الزى الطائفي لإرضاء المجتمع و تفادى الجدال بينما يمارسن حياتهن بشكلها المعتاد يفعلن كل ما يروق لهن بل وأكثر على اعتبار أن الحجاب أو إحدى أخواته بمثابة كارنية مباحث يسهل لهن الحركة ويزيد من جرأتهن وليس هناك دليل أبلغ من مشاهد غرام هؤلاء خاصة المراهقات منهن على كورنيش الإسكندرية وبين الأشجار في منطقة المنتزة عندما يأتي المساء ويحلى الكلام!

 وقد يكون دخول رؤوس أموال ذات توجهات معينه ساعد في الترويج لهذا الضغط المجتمعي فنرى تحول في شكل الفن المصري حيث انتشرت مسلسلات لبطلات محجبات و للعجب أن ماكياجهن بدا صارخاً أكثر كثيرا من السافرات، ولم يقف الأمر عند المسلسلات بل أن شبكة راديو وتلفزيون العرب (أرت) المملوكة للشيخ صالح كامل وعلى قنواتها المخصصة للأفلام العربية بدأت تفرد مساحات واسعة من بث القناة للأفلام الإيرانية "المحافظة" رغم تواضع مستواها، إضافة إلى أنها غير ناطقة بالعربية في الوقت الذي غيبت فيه الأفلام التونسية المتحررة، وهذا لأن الفيلم الإيراني أتى كأداه جيدة لتعويد عين المشاهد على الأبطال الملتحين والبطلات المحجبات للمساهمة في خلق مناخ عام يتقبل تلك الأزياء التي لم نكن نعرفها في مصر منذ عقود قريبة،

وواكب هذا ظهور شركات إعلانية تسير على نفس الخطى وتعرض إعلاناتها على قنوات المحور وميلودى أفلام وأحيانا الفضائية المصرية حيث يظهر جميع أبطال الإعلانات بأزياء مختلفة عن المعتاد فالبطلة محجبة والبطل بلحية أو جلباب!!  وهنا عليه توضيح أنني لا أعنى تعميم أو أساءه لفئة معينة بل أسجل ملاحظات شخصية قد تفيد في فهم وتحليل التغير الذي طرأ على المجتمع المصري، ولعل فيلم "أوقات فراغ" يعد أكثر الأعمال الدرامية الحديثة التي جسدت هذا الواقع في إشارة واضحة للازدواجية في الشخصية المصرية حيث يعلنوا ما لا يفعلوا ويفعلوا ما لا يعلنوا وهو نوع من النفاق الاجتماعي الذي أصبح ظاهرة مستشرية في مجتمعنا فالكل ينافق ويركب الموجة وكأنه قطيع وجب على الجميع إتباعه، وبالرغم من احترامي لحرية الإنسان في الظهور باى زى يفضله إلا أن ما يثير الانتباه هو مواكبة تلك المظاهر التي من المفترض انه يتم الترويج لها على أنها تدين، بانحدار أخلاقي حقيقي امتد بين مختلف فئات المجتمع حتى أصبح سمة الشارع المصري فبتنا نعيش في أرض النفاق. ______________________ *  كاتبة مصرية

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.http://rezgar.com/m.asp?i=788