Print

 ليس دفاعا عن الوزير.. لكن رفضا لاحتكار الدين

إكرام يوسف

 الحوار المتمدن  

لعل أكثر ما يلفت النظر في البيان الذي أصدره أخيرا مجموعة من المواطنين باسم "بيان المثقفين" بخصوص العاصفة التي هبت إثر تعبير وزير الثقافة عن رأيه في مسألة الحجاب؛أن معظم الموقعين على البيان لا يمكن أن يحسبوا على أنهم من أنصار الوزير أو أصدقائه.

  بل أن أغلبهم لهم مواقف ضده في أكثر من مناسبة طالبوا فيها بمحاسبته على أمور اعتبروها تنطوي على تقصير في أداء وزارته. والعديد منهم ليس بينهم وبينه أي علاقة مصلحة أو عمل؛ والأهم أن بين الموقعين عددا لا بأس به من المواطنات اللاتي حرصن على تذييل توقيعهن بالتعريف بأنهن من "المحجبات". بل أن بعضهم أصر على الإشارة إلى أن توقيعه لا يعني الاتفاق مع مجمل مواقف الوزير.. وإنما تطبيقا لمبدأ فولتير"قد أختلف معك في الرأي، لكنني على استعداد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك".. وأنه كان يفضل أن تتم محاسبة الوزير على أمور تخص عمله؛ وليس على تعبيره عن رأيه في قضية خلافية. ولا شك أنه لا يمكن لمنصف إلا أن يرى في ذلك دلالة أكيدة على أن هؤلاء الموقعين لم يهدفوا بتوقيعهم إلى مناصرة الوزير شخصيا؛ وإنما رفضا لأن تقرر مجموعة من الناس أنها أصبحت تملك "الوكالة الحصرية" للتحدث باسم الله، وتحديد ما يجب وما لا يجب الحديث فيه، وعلى أي صورة يكون هذا الحديث. ولاشك أن المنطق وطبيعة الأشياء يقولان أنه بالنسبة لقضية خلافية، مثل قضية الحجاب التي اختلف فيها مفكرون إسلاميون وعلماء دين لا يقلون عن بعضهم احتراما، لا يصح أن يحدد بعضنا للبعض الآخر عن أي هؤلاء العلماء نأخذ الفتوى "فاختلافهم رحمة"، والقاعدة التي يؤسسها الحديث النبوي الشريف "استفت قلبك. وإن أفتوك.. وإن أفتوك.. وإن أفتوك".. ومن هنا لا يصح بالطبع أن تضار محجبة بسبب حجابها، أو أن يفرض عليها خلعه، كما لا يصح أن تضار من اختارت اتباع أقوال مفكرين "إسلاميين" بعدم فرضية الحجاب، أو استفتت قلبها فأفتاها بعدم فرضيته، بسبب اختيارها. فالمسألة في النهاية اختيار شخصي يستحق الاحترام، كما أن العقيدة نفسها حرية شخصية تستحق الاحترام؛ بعدما كفل لها الاحترام قاعدة سماوية "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

".

ولعله من أسوأ ما ابتلينا به خلال أكثر من ثلاثين عاما مضت، أن أصبح البعض يصر على أن "فهمه " للدين هو الدين ذاته؛ رغم ما درج عليه علماء محترمون في عصور محترمه من التفرقة بين "الدين" كما أنزل وبين تأويلاته، أو"الدين كما تداولته الأفهام" .. وبات سيف التكفير مسلطا على كل من يتجرأ ويفكر أو "يستفتي قلبه" أو حتى يقتنع بأفكار "مفكرين إسلاميين"آخرين.. وصارت الاتهامات بالكفر أسهل من تحية الصباح عند البعض!.. وأصبح سيف الإرهاب الفكري مسلطا علينا، بحيث يجب أن نتلفت حولنا ونراجع أنفسنا ألف مرة قبل النطق بلفظ ـ ربما ـ لا يتفق و"فهم" مجموعة بعينها للدين!.. وتركز اهتمام المجتمع الديني حول زي المرأة بالذات؛ وانحصر الدين في هذه المنطقة، حتى أنني أعتقد أني لا أبالغ لو قلت أن تركيز الاهتمام حول هذا الأمر كان سببا من أسباب ما أصبحنا نسمع عنه من زيادة في حالات الانحراف الأخلاق والتحرش وما إلى.. ليس بالطبع السبب الوحيد ولا الرئيسي ـ فهناك كما نعلم حزمة من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ـ لكن تركيز اهتمام الجميع حول جسد المرأة باعتباره محور قضاياتا، على النحو الذي اعتبره البعض"جوهرة ثمينة" تستحق الإخفاء على حد قول البعض، أو عارا ينبغي ستره، فيما رآه البعض من زاوية أخرى "سلعة تستحق العرض".. وبات السجال بين الفريقين هو شغل المجتمع الشاغل؛ ألا يحق لنا بعدها أن نعتبر هذا التركيز المبالغ فيه أحد أسباب ما نشهده من انحرافات أحيانا؟ خاصة ونحن نعلم أنه قبل ظهور مسمى "الزي الإسلامي" في السبعينيات، كانت قد ظهرت صرعة "الميني جوب" و "المايكرو جوب" لكن لم يصاحبها ما نسمع عنه أحيانا من تفجر حالات الكبت والتحرش والانحرافات الأخلاقية على النحو الذي نشهده مع كثرة الحديث عن الالتزام بالزي الذي يعتبره فئة من العلماء والمفكرين "إسلاميا" وتعتبره فئة أخرى من العلماء والمفكرين "زيا تقليديا" لمجتمعات مجاورة؟ خاصة وأننا في مصر لم نكن نسمع عن "الزي الإسلامي" بهذا الزخم قبل فورة الهجرة إلى المجتمعات الخليجية في السبعينيات. وكان أهلنا يحرصون قبل ذلك على أهمية أن تكون الفتاة "محتشمة ولم يكن مفهوم الحشمة في ذلك الوقت يتطرق إلى شعر المرأة بأي حال من الأحوال؟ " وكان بين أهلنا هؤلاء علماء دين ومفكرون إسلاميون أيضا لم نسمع أنهم خاضوا معارك تحت مسمى "الزي الإسلامي".. لاشك أن "الفتوى" لها أصحابها، ولا يحق لأي من كان أن يتصدى لها؛ كما لم يجرؤ الوزير على أن يعتبر قوله المرسل من باب الفتوى، وإنما هو كما قال "دردشة شخصية" يحق له فيها التعبير عن رأيه خاصة في قضية خلافية لا يحق لأحد أن "يجزم" بأن فهمه لها أو تفسيره لآيتين وحديث نبوي هو القول الفصل. فطالما كان هناك من لديه تفسيرا مغايرا لنفس الآيتين ونفس الحديث، يحق لأي منا أن يتبع أيا من التفسيرين بعد أن "يستفتي قلبه".

ثم أن تركيز الخطاب الديني وحصره في قضايا "جسد المرأة وتغطيته" أو "تحديد مناطق العورة" همش العديد من القضايا الأكثر إلحاحا في مجتمع يعاني أغلب شبابه من البطالة وترتفع فيه تكاليف العلاج والتعليم والسكن؛ على نحو يهدد بعواقب وخيمة؛ فلم تحظ قضايا مثل التكسب من استغلال الآخرين وعدم "إعطاء الأجير حقه" ـ مثلا ـ بالقدر الكافي من الاهتمام، كما شغلنا هذا التركيز عن الاهتمام بقضايا البذخ الاستفزازي الذي نسمع عنه دون أن نطبق الحديث الشريف "ليس بمؤمن من بات شبعانا وجاره جائع" ـ أو كما قال ـ..ولا شك أن هذا التركيز لم تحظ به قضايا أخرى، مثل نهب المال العام، أو التلاعب في تأشيرات الحجاج، أو رفع أسعار السلع والغش التجاري..أو قمع المتظاهرين أو التعذيب في أقسام الشرطة.. والاعتداء الجنسي على المشتبه بهم.. أو التحرش بالصحفيات.. أو كوارث قطارات السكك الحديدية والعبارات أو انهيار العمارات.. أو.. أو..

أخيرا، ألم يحن الأوان بعد، للبعد عن التدخل في اختيارات الإنسان الشخصية، واعتبار عقيدته والتزامه أمرا لا يحق سوى لله ـ وحده ـ حسابه عليها، لنلتفت إلى حساب من يستحقون الحساب على ما يسببونه من أضرار للمجتمع؟