Print

القضية أخطر‏..‏ والمعركة أطول‏!‏
بقلم : أحمد عبدالمعطي حجازي

Al-Ahram  

سنكون سذجا إذا ظننا أن الحجاب هو حقا قضية هؤلاء السادة الذين أثاروا هذه الضجة الواسعة التي بدأها زعماء الإخوان المسلمين وتابعهم فيها بعض شيوخ الأزهر‏,‏ ثم انتقلت بالعدوي لمجلس الشعب‏,‏ حيث تباري نواب المعارضة والحزب الحاكم‏(‏ ؟‏)‏ في التنديد بوزير الثقافة وما قاله عن الحجاب‏.‏ ثم أصبحت هذه الضجة حديث الصحف والإذاعات في الداخل والخارج‏.

ثم تلقفها خطباء المساجد وطلاب المدارس والجامعات فإزدادت سخونة وغوغائية اضطر معها بعض الوسطاء لإقناع وزير الثقافة بأن يحني رأسه قليلا للعاصفة ويعتذر ولو بطريق غير مباشر عن رأي عابر أبداه في مسألة مطروحة للمناقشة في العالم‏,‏ لايمنع القانون من إبداء الرأي فيها‏,‏ وليست محل اتفاق أو إجماع‏,‏ وإنما هي موضوع خلاف ونظر‏,‏ فمن حق من شاء أن يبدي رأيه فيها سلبا أو إيجابا‏.‏ ومن حق من شاءت أن تكون سافرة أو محجبة‏.‏

لكننا سنكون سذجا جدا إذا ظننا أن الأمر سيقف عند هذا الحد‏,‏ أو أن الحجاب هو حقا قضية الذين أثاروا هذه الضجة وغذوها‏.‏ فها هم يخرجون من معركة الحجاب التي حصلوا فيها علي انتصار سريع ليشنوا هجومهم علي المثقفين المصريين ويرموهم بأبشع التهم‏,‏ وذلك في البيان الذي ذكرت الصحف أن عددا كبيرا من الأزهريين وقعوه ووصفوا فيه المثقفين الذين ساندوا وزير الثقافة ورأوا رأيه في الحجاب بأنهم طابور خامس أي خونة عملاء‏!‏

ثم هاهم ينقلون المعركة بعد ذلك إلي خارج العاصمة فيجتمع بعضهم في احدي كليات الأزهر في المنوفية ليمنحوا طالبا من طلابهم درجة الدكتوراه عن بحث حول مجلة روزاليوسف في ميزان الفكر الإسلامي يقول فيه صاحبه إن روزاليوسف مجلة هدامة معادية للإسلام‏,‏ تسعي للإفساد‏,‏ وتتخذ مسلكا يضر بالعقيدة والمبادئ الإسلامية‏,‏ وتنشر الصور الخليعة والروايات الفاجرة والفكر الهدام‏,‏ وأن هذا كان دأبها طوال تاريخها منذ أنشأتها اللبنانية المهاجرة والممثلة النصرانية روزاليوسف‏!‏

والبيان الذي يتهم فيه هؤلاء السادة المثقفين المصريين بالخيانة والعمالة ليس أول بيان من هذا النوع‏.‏ والمثقفون المصريون الذين ساندوا وزير الثقافة ليسوا أول من وجهت لهم هذه التهم الشنيعة‏,‏ وإنما سبقهم محمد عبده الذي اتهموه بهدم الأزهر لأنه دعا لتحديث مناهجه وتدريس علوم العصر فيه‏.‏ وقاسم أمين الذي اتهموه بإشاعة الفاحشة لأنه دعا لتحرير المرأة‏.‏ وطه حسين الذي اتهموه بالسرقة والتغريب والنقل عن المستشرقين والعمالة للغرب‏.‏ وعلي عبدالرازق الذي فصل من وظيفته وأسقطت عنه درجته العلمية لأنه وقف في وجه الملك فؤاد وشيوخ الأزهر الذين أرادوا أن ينصبوه خليفة‏.‏ ولويس عوض الذي رموه بما هو أشنع وأفظع‏.‏ وفرج فودة الذي اغتاله المتطرفون من أعضاء الجماعات الإرهابية وكفره المعتدلون من رجال الأزهر‏.‏ ونجيب محفوظ الذي تعرض لمصير مشابهه‏.‏ ونصر حامد أبوزيد الذي اضطهدته الجامعة‏,‏ وكفره بعض القضاة وحكموا بتطليق زوجته وأرغموهما معا علي مغادرة مصر‏!‏

والحملة التي يشنها هؤلاء السادة علي روزاليوسف المجلة‏,‏ وصاحبة المجلة هي الحملة التي شنوها علي الجامعة حين كانت جامعة بحق‏,‏ وعلي الدستور حين كان دستورا بحق‏,‏ وعلي القوانين الحديثة‏,‏ وعلي العلوم الحديثة‏,‏ والمناهج العقلية‏,‏ والفنون الجميلة‏,‏ والديمقراطية‏,‏ والسفور‏,‏ وحقوق الانسان‏,‏ وفصل الدين عن الدولة‏.‏ كل ما اعتنقناه من مبادئ وأفكار في هذا العصر الحديث‏,‏ وكل مابنيناه من مؤسسات مرفوض لدي هؤلاء السادة متهم عندهم‏,‏ منقول عن النصاري مقتبس من حضارتهم‏,‏ خارج علي ثوابت الأمة كما يحددها هؤلاء‏,‏ ويفهمونها‏,‏ ويروجون لها‏,‏ ويتكسبون من ورائها‏.‏ وتلك هي القضية‏.‏

قضيتهم لاتقتصر علي فرض الحجاب‏.‏ ومعركتهم لم تنته بإعتذار وزير الثقافة‏,‏ وإنما قضيتهم أخطر ومعركتهم أطول‏.‏

قضيتهم بإختصار هي إلغاء النهضة الحديثة من تاريخنا‏,‏ ومحو كل أثر لها في حياتنا‏,‏ وإعادتنا إلي ما كنا عليه في ظل المماليك والعثمانيين‏,‏ فإذا لم يكن باستطاعتهم أن يجهروا بعدائهم للدستور سعوا لإفساد الدستور بما يدسونه فيه من مواد تناقضه وتفرغه من محتواه‏.‏ وإذا لم يكن باستطاعتهم أن يجهروا بعدائهم للديمقراطية فباستطاعتهم أن يستخدموا الديمقراطية في هدم الديمقراطية‏,‏ وأن يحو لوا البرلمان إلي محكمة تفتيش تحارب حرية الرأي وتصادر الكتب‏.‏ وإذا كان من الصعب أن يطالبوا الآن بعودة الخلافة فليس من الصعب أن يطالبوا بإقالة فاروق حسني الذي قال إن الحجاب عودة إلي الوراء‏,‏ فوجدوها فرصة يتقدمون فيها الصفوف‏,‏ واتخذوا الحجاب راية أو قميصا كقميص عثمان الذي حمله الأمويون وهم في طريقهم لاغتصاب السلطة‏.‏

الحجاب ليس هو القضية وانما هو رمز لها‏,‏ رمز لعصر مضي وتعبير عما كانت تطلبه المجتمعات القديمة ومن ينتمون لها من المرأة والرجل معا‏:‏ العزلة لا المشاركة‏.‏ والتخفي لا الظهور‏.‏ والكتمان لا البوح‏.‏ والامتثال للأمر دون اعتراض أو مناقشة‏.‏ والرجوع للتقليد وحده لا للعقل ولا للضمير‏.‏ فالعقل عند هؤلاء السادة عاجز عن إدراك الصواب‏.‏ والضمير عاجز عن كبح جماح الغريزة‏.‏ ولابد إذن من يد حديدية ونظام قاهر تنفرد بتسييره جماعة من أصحاب القوة والثروة وملاك الحقيقة المطلقة تفرض سلطانها علي الجميع‏.‏

فإذا كان الحجاب رمزا لما كانت عليه الثقافة والأخلاق والتقاليد والنظم السياسية في المجتمعات القديمة‏,‏ فالسفور هو الرمز المقابل‏,‏ وهو التعبير عما صار إليه الناس وصارت إليه الثقافة والسلطة في المجتمعات الحديثة التي تتأسس علي الحرية‏,‏ وتحتكم للعقل‏,‏ وتؤمن بأن الانسان فاضل بطبعه خير بطبعه رجلا كان أو
امرأة‏.‏ وهذا ما لايؤمن به هؤلاء‏!