Print

الدولة المسلمة

د.سيد القمنى

      في القرن الخامس قبل الميلاد عقدت روما أول جمعية مُشكلة من مواطنيها ، وقررت هذه الجمعية إقراراً للعدل التخلص من السلطة المطلقة في نظامها الملكي ، واختارت بدلاً من الملك قنصلين متعادلين في السلطة ، يحكمان لمدة عام واحد فقط ، ليكون من مهام كل قنصل مراقبة زميله ، وعينت اثنين من البريتورPraetor ليراقب كل منهما القنصلين حرصاً على مصالح الشعب.  

 

و وضعت لبنات أساسية لدستور كانت مهمته الأولى هي التصدي للحكم الفردي المطلق ، ونصت على قتل من يحاول أن يصبح ملكاً ، وإن تم الحكم على مواطن بالإعدام في زمن الحرب من أحد الحكام فله أن يلجأ للجمعية العمومية ، كما نصت على أن عقوبة الإعدام هي من حق الشعب وحده في زمن السلم. حدث هذا قبل ظهور الإسلام بما ينوف على الألف بقرنين من الزمان ، وكان فارق الزمان هذا كفيلاً أن يعرف العالم معنى العدالة ومعنى الديمقراطية منذ تأسست في روما ، وأن لهذه الديمقراطية الأولية آليات وأجهزة تقوم على حمايتها وتنفيذ مآربها ، بهدف تحقيق القانون بالعدل بين الناس ، فلا يكون لأحد سلطان على رقبة آخر يعطيه حقاً فردياً في الإعتداء على حياة أحد المواطنين. حدث هذا في روما الوثنية قبل ظهور المسيح بخمس قرون ، و قبل الإسلام بألف ومئتي عام.

ويقول لنا أصحاب حلم الدولة الإسلامية أن الإسلام قد أسس للمساواة كأسنان المشط ، ولا فضل لأعجمي على عربي ، وجعل الحاكم محاسباً أمام الرعية ، ألم يقل البدوي لأبي بكر لو أخطأت لقومناك بسيوفنا؟ أليس جميلاً ومؤثراً موقف الخليفة العادل عمر بن الخطاب وهو يطلب من ابن الأسفلين أو ابن المستعبدين أن يأخذ ثأره من ابن الأكرمين.

ألا تشير العبارة بوضوح لهذا الترفع في المعنى؟ الكلام جميل وحلو ومؤثر وعاطفي ، فهو كلام ، أقوالنا المأثورة عن المساواة والعدالة ومسئولية الحاكم إزاء الرعية نكررها هي هي لأنها تعد على أصابع اليد الواحدة ، في نفس الحادث السالف ذكرها قال عمر قولته الخالدة : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟

 الكلام سهل خاصة عندما يدلك العواطف ، فما أحلى كلام الإنجيل عن المحبة والصفح الرائعين بلا شبيه ولا نظير ، لكن محاكم التفتيش والحروب الصليبية قالت في الواقع قولاً آخر مكتوباً بدم الأبرياء وصراخ الثكالى. في التاريخ الديني يوجد نصان ، أحدهما نظري خطابي إرشادي وعظي قصصي حكمي روائي عاطفي يخاطب القلوب والأرواح ، والآخر هو ما تم تدوينه في الواقع فعلاً وحدثاً ، وهو كما حدث في المسيحية حدث في الإسلام ، ودونه المسلمون بأيديهم ، كلون من الفخار والعزة و السؤدد ليفاخروا به التاريخ كله ، وكلا النصين مقدس. وكلاهما عندما فعل في الواقع بالفعل البشري ونوازعه ورغباته أدى إلى احتلال البلاد والإسراف في القتل والإستبداد بالعباد ، مع قهر وظلم بلا شبيه ولا نظير ، لأنه تم تدوينه بدم الناس وأوجاعهم وبالإبادات الجماعية الشاملة التي نسميها اليوم جرائم حرب ضد الإنسانية 

اليوم يوجه لنا المشتغلون بالدين علينا الخطاب الأول ويغطون حتى على مصادر الخطاب الثاني ، ويطلبون عودة بلادنا إلى نظامها الخليفي الأول ، و يطلب الاتحاد العالمي للإخوان إحياء الخلافة هدفاً رئيسياً في برنامجه. لذلك يصبح واجباً على المسلم أن يعلم ما هو مقبل عليه في حال إستلام الإخوان أو أحد إخوانهم لحكم مصر المحروسة لا قدر الله ولا كان. نعود للخلفاء الراشدين قدوة المسلمين والذين تحولت فعالهم في المذهب السني إلى سـُنة كسنة الرسول مكملة له بالضرورة ، بحسبانها النموذج الذي يدعو له المتأسلمون على كافة ضروبهم لنجد الواقع ينطق بغير أقوالنا المأثورة ، فالخليفة الذي قبل من الإعرابي قوله : أن يقومه بسيفه ، هو من قوّم الجزيرة كلها بسيفه ، فقتل أهلها شر قتلة ، قتل من اعترضوا على خلافته وشكوا في شرعية حكمه وصحة بيعته ، وقتل من قرر ترك الإسلام إلى دين قومه ، فأمر برمي الجميع من شواهق الجبال وتنكيسهم في الآبار وحرقهم بالنار ، وأخذ الأطفال والنساء والثروات غنيمة للمسليمن المحالفين لحكم أبي بكر ، وهو ما دونته كتب السير والأخبار الإسلامية على اتفاق والخليفة الثاني العادل ، هو من استعبد شعوباً بكاملها ومات مقتولاً بيد واحد ممن تعرضوا للقهر والإستعباد في خلافته ، أما الخليفة الثالث فكان واضحاً من البداية في التمييز وعدم العدل خاصة في العطاء فكان أن قتله أقاربه وصحابته الذين هم صحابة النبي قتلاً أقرب إلى المثلة ، فكسروا أضلاعه بعد موته عندما نزوا عليه بأقدامهم ، ورفض المسلمون دفنه في مقابرهم فدفن في حش كوكب مدفن اليهود.

 ستواجهنا هنا مشكلة أخرى فبأي الخلفاء الراشدين سنقتدي في دولتنا الإسلامية المقبلة؟ وبأي طريقة سيتم اختيار الخليفة ، لأن الخلفاء الأربعة كان لكل منهم طريقة في الوصول إلى الحكم. الخليفة أبو بكر انتصر بحديث "الإمامة في قريش" أو "الخلفاء من قريش" وفي تأويل آخر رمزي اعتبر تكليف النبي له بالصلاة بالمسلمين في مرضه الأخير ، تفويضاً له بالخلافة ، ولم يكن تعييناً واضحاً دقيقاً بالمرة. واختار أبو بكر عمراً من بعده ، واختار عمر من بعده ستة يختاروا من بينهم واحداً ، وفي ولاية على أقوال كثيرة. كل هذا يشير إلى أن رب الإسلام لم يضع للمسلمين نظاماً واضحاً في الحكم ليتبعوه ، بدليل اختلاف الهداة الراشدين وإلا كان تصرف وفعال وطريقة كل خليفة في الحكم مخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة.

 إنهم يقولون لنا غير ذلك ، يقولون أن دولة الخلافة والشريعة معلوم من الدين بالضرورة ، ومن يعارض قيامها (مثلي مثلا فأنا أشد أعدائها) هو مرتكب لما هو مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة؟إنهم يزيدون علينا في أمر ديننا ، وهذا هو التعريف الدقيق للبدعة ، المسألة ببساطة أن رب الإسلام ترك شأن الحكم للمسلمين ، إن شاءوا فعلوا ما فعل الإثينيون بديمقراطيتهم المباشرة ، وإن شاءوا فعلوا فعل بلقيس عندما كان لها لجنة استشارية متخصصة ترجع إليها في شئون الحكم ، وهو ما أخبرنا به القرآن ، ولم يعب القرآن حكم بلقيس ، إنما عاب دينها ، ففصل الدين عن السياسة ، وترك لنا نموذجاً آخر بين البدائل الممكن اختيارها. فإن شاءوا أخذوا بالطريقة المصرية أو الساسانية وكل ما يجمع بين هذه الأمثلة هو وجود المؤسسات والهيئات التي تقوم على حفظ نظام الدولة وكيانها وإقامة العدل بين المواطنين ، وحفظ حقوقهم. نعود لزمن الرسول والصحابة نبحث أي النماذج اختاروا للحكم من بين المعروض في الدنيا ، وهو مساحة صمت فيها الوحي ، فكانت مساحة حـُرة يمكن فيها اختيار أفضل الأنظمة لأفضل الأديان ليعبر عنه وعن عدله ومساواته ، ومحققاً لمأثوراتنا خاصة أسنان المشط دلالة على المساواة.

يقول "أبو حاتم وابن مردوية عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى النبي ص فقضى بينهما ، فقال الذي قضي عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب ، فأتينا إليه ، فقال الرجل : قضى لي رسول الله على هذا ، فقال ردنا إلى عمر ، فقال عمر : آكذاك ؟ قال : نعم ، فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فخرج إليهما مشتملاً سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر فقتله ، وأدبر الآخر ، فقال : يا رسول الله قتل عمر صاحبي ، فقال عليه السلام : ما كنت أظن أن يجتريء عمر على قتل مؤمن ، فأنزل الله : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً. النساء 65

ويتأسس على هذا الحدث وتلك الآيات في أيامنا هذه تشريع فتوى بقتل المخالفين وتفجيرهم لأنهم لا يرضوا بحكم الله والرسول بمخالفتهم للمذهب السني! لأن عمراً قتل الذي لجأ إليه طلباً للعدل وهو يقول : "هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله". وقضاء الله ورسوله اليوم هو التجديد الوهابي للمذهب السني بالتحديد والتدقيق. فإن خالفته في شيء فعلوا بك فعل عمر فيمن ذهب إليه طالباً العدل.

تعالوا نعرض هذا الموقف على الرؤية الرومانية الوثنية قبل الإسلام بإثنى عشر قرناً ، كان من حق هذا المقتول أن يعرض أمره على الجمعية العمومية قبل تنفيذ الحكم ، لا أن يصدر الحكم وينفذ في نفس اللحظة ، كما أن عقوبة الإعدام وقت السلم لا يحق صدورها من أفراد بل هي من حق الشعب من خلال مؤسسات المجتمع ونظام الدولة. ولم يكن خلاف هذين المتخاصمين في أمر من أمور الدين فليس بينهم خلاف على نبي ولا شعيرة ولا آية ، كان خلافاً في شأن دنيوي بعيداً عن دائرة الدين ، وكلاهما كان من الصحابة مثل عمر ، وكانا يعرفان النبي كما يعرفان عمر ، وكان قول النبي : " ما كنت أظن أن يجتريء عمر على قتل مؤمن " يشير إلى معرفة النبي أن الرجل ليس مسلم فقط بل هو مؤمن وهو أعلى درجة من المسلم.

 لكن الله حسم الموقف بعدم إيمان المقتول ، هنا لابد للعقل أن يتساءل : وهل كان عمر عندما قتل القتيل يعرف أنه غير مؤمن ، فالنبي نفسة لم يكن يعرف ذلك؟ وإن كان القتل قد تم بناء على عدم إيمانه وأن عمراً استنتج ذلك لعدم قبوله بتحكيم الرسول ، فما هو الحال مع الأعراب الذين قال الله بشأنهم " قالت الأعراب آمنا ، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " الحجرات 14. وحتى لو كان عدم إيمان الرجل مؤكدا ، فإن ذلك العقاب بمنطق اليوم وحقوق اليوم غير مقبول بجميع المقاييس.

المقصود هنا بيان أن دولة النبوة كانت شأناً خاصاً وطارئاً وكذلك دولة الراشدين ، وإنه كان للزمن ولظروف البيئة وإحكامها وتحكمها للشكل القبلي في الحكم ، لكنها لا تلزمنا اليوم باتباعها لأن مسألة الحكم تركها الله لنا مساحة حـُرة نقيم حكمنا بأيدينا كيفما شئنا.

أما دولة النبي أو دولة الراشدين فكانت ائتلافاً قبلنا يصعب علمياً أن نطلق معه كلمة دولة على هذا الائتلاف لأنه لا يملك أياً من مقومات الدولة. ودليل من فعالهم يشير إلى قناعتهم الداخلية أن الحكم الديمقراطي شيء ودولة الرسول والراشدين شيئاً آخر ، وإن مطالبة الإخوان بحزب يخوض العملية الديمقراطية بغرض إقامة نظام إسلامي "الفرد المسلم والحكومة المسلمة " ليس سوى احتيال على الديمقراطية ، الدليل دعوة الإخوان لمقاطعة الاستفتاء على المادة 76 ، فلو كانت الديمقراطية من دولة الإسلام أو من الإسلام لكانوا أول المشاركين عملاً بالشرع وأول الداعين له ، لكنهم يزعمون الديمقراطية سبيلاً ويؤكدون أنها عمدة الإسلام بقوانينهم المحترمة لنقبل بهم في الحقل الديمقراطية خلفاء علينا يطبقوا ما يعن لهم ، لأنه لا يوجد تفصيل وتقنين واضح لطريقة الحكم في الإسلام ، لكنهم يدعون الناس إلى مقاطعة الديمقراطية والاستفتاء لأنهم يعلمون أنهم لن يكونوا فيها وهم على حالهم هذا.

لماذا لم يقولوا للناس إذهبوا ومارسوا الحق الدستوري وتعلموا الديمقراطية وقولوا ما تريدون ، وكان بالإمكان أن يحرض الإخوان الناس ليذهبوا وليقولوا ( لا ) فيكونوا قد فعلوا ما يحمد لهم باحترام الديمقراطية وتكريمها عند الناس. إن الاستفتاء خطوة في الطريق الصحيح ، خذ إذن وطالب ولا تكن كما كنت دوماً كل شيء أو لا شيء فتأخذ ( لا شيء ). لتكن مرحلة انتقالية يصارع فيها الجميع سلمياً لتحقيق الديمقراطية ، لقد ساووا بيننا وبين العبيد الرومان 500 قبل الميلاد فهم فقط من لم يكن من حقهم التصويت.

 كان على الإخوان أن يثبتوا احترامهم للديمقراطية بدعوة الناس دعوة عامة للمشاركة في الاستفتاء ويقولوا ( لأ ) ، كما اهتموا بالدعوة العامة للحجاب والخمار والنقاب.. سادتي الإخوان : إن الديمقراطية أهم من الحجاب واللحية والسروال الباكستاني.

 المشكلة عند الإخوان أنهم يدعون تلبيساً وتقية مباديء الديمقراطية لأنهم لو صدقوا ما طلبوها دولة إسلامية ديمقراطية ، لأنكم لو أصررتم على أنها إسلامية فإن مجرد ترشيح أحدكم ضد الحاكم سيكون خروجاً على الشريعة ولحق عليكم جز الرقبة في ميدان عام حسب الشريعة ، " عن أبي بكر عن رسول الله قال : من خرج يدعو إلى نفسه أو إلى غيره وعلى الناس إمام ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فاقتلوه " ( تاريخ الديلمي ، أنظر أيضاً تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 76)

هذا لأن الدولة الإسلامية بحكم منشئها وتكوينها الاجتماعي القبلي لم تكن دولة مؤسسات ، وكان من الضروري تفعيل هذا الحديث النبوي لإحداث الاستقرار والتماسك للدولة الناشئة ، ولم تعرف تلك الدولة تداول السلطة ن بل أنها في أحيان كثيرة لم تعرف العدل بقدر ما عرفت الظلم.

 كانت روما منذ قرون متطاولة قد قسمت شعبها مئات سميت بمجالس مئوية هي كل الشعب ، وهي التي تختار كبار المتنفذين ، وتنظر في الإجراءات التي يعرضها عليها الموظفون أو مجلس الشيوخ لتجيزها أو ترفضها ، كما تنظر فيما يرفع إليها من استئناف الأحكام ، وتنظر في جميع قضايا الإعدام ، وتعلن الحرب ، وتعقد الصلح. وفي عام 454 م بناء على رغبة الشعب أرسل مجلس الشيوخ إلى بلاد اليونان لجنة من ثلاثين حكيماً لدراسة شرائع صولونSOLON وغيره وكتابة تقرير عنها ، ومن ثم تم تشكيل لجنة من عشرة حكماء للخروج بما جاء به الثلاثين ، لوضع قانون لروما " دستور " وتم تخويلهم لمدة سنتين للإنتهاء من وضع القانون ، الذي تم تدوينه على اثنى عشر لوحاً (ذائعة الصيت) وافقت عليها الجمعية بعد تعديلات ، و تم عرضها في السوق للناس ليعرفوا حقوقهم وواجباتهم.

 وكان هذا أول دستور في تاريخ الإنسانية. أما في دولة الراشدين فكان الحكم يقوم كما قال أبو بكر على الكتاب والسـُنة ، رغم أن الكتاب كان مفرقاً بين الصحابة في الأكتاف والعظم والعسيب ولم يتم جمعه بعد في مصحف واحد ، ورغم أن الحديث لم يكن بدوره حتى مسموحاً بتدوينه ، وكانت نصوصه غير معلومة لجميع أفراد الأمة وكذلك القرآن ، فكيف كان يتم حكم تلك الدولة بالكتاب والسنة وهما غير مدونين وغير معلومين من الأمة محل تطبيق هذه القوانين؟ ناهيك عن واضعي الأحاديث المحترفين وأصحاب الفتاوى وكلها كانت تصب لصالح حلف الفقيه والسلطان.

والملحوظ أن المواطن لم يطالب بحقوقه من حرية ومساواة وعدل وأمن بقانون وآليات لتنفيذه وحمايته ، ولم تسع الدولة من جانبها لتوضيح تلك الحقوق له كما فعل الرومان. وإذا كانوا سيستدعون لنا تلك الدولة النموذج ليحكمونا بها فليقولوا لنا كيف يقام العدل وتتم المساواة والحرية التي يؤكدون أنها أسس دولتهم الإسلامية؟ كيف قامت عدالة دون قانون منشور معلن يعرفه الناس ليحكموا به؟ لو كان هناك قانون مدوناً ما عاد أبو بكر إلى حديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" رداً على فاطمة بنت النبي عندما طلبت ميراثها وفوجئت لأنها لا تعلم من أبيها أخص خصائها ، ما كان وحده من سيتذكر هذا الحديث أو يعتمد على الذاكرة ، بهذا المعنى تكون الدولة دولة طواريء طوال الوقت ، كلما أردت اتخاذ خطوة أخرجوا لك حديثاً لم يكن معلوماً من قبل ، دولة القانون حتى لو كانت دولة الكتاب والسنة فلابد أن تعرف الرعية حقوقها وواجباتها حتى لا تخالف القانون ، وتقف أنت عند محاكمتك بين صحابي يدينك بحديث وبين آخر يجرمك بآخر وبين فتوى تهدر دمك.

إن الظلم هو خالق العدالة لأنها لو وجدت لاختفى ، والظلم كالجرم هو خروج على القانون. ولابد أن يطلع المواطن على القانون لأنه كان نسبياً بين بلد وآخر ، يعني عندما أتزوج أربع نساء في السعودية ليست جريمة ولو عملتها في فرنسا جريمة ، فالقانون هو ما يوضح الجرم للناس ويشرحه لهم. عندما تضع يافطة ممنوع الانتظار فمعنى ذلك أن تظهر المخالفات ، لو رفعنا اليافطة لن تكون هناك مخالفات ، فالقانون هو ما يحدد الجرم بل هو ما يخلقه جرماً ، لأنه يحرم أفعالاً لن أستطيع تمييزها إن لم أعرف القانون.

وهنا يحدثوننا عن عدل عمر والقانون غير معروض ، وهو ما سوغ لعمر قتل رجل فاستوى الظلم مع العدل. ومن بعد عندما تم السماح بتدوين الحديث وجمعه حدثت كارثة الحديث الحاصل على درجات ، فهذا جيد جداً سنده قوي ، وهذا حصل على درجة مقبول لأن سنده ضعيف ،كيف يكون القانون هنا ؟ وما هو بالضبط؟

أما المثير للانتباه أن جامعي الحديث لم تكلفهم الدولة بذلك عبر تاريخها المتطاول إنما قام به من قام متطوعاً لوجه الله. مجرد تذكير ، إن الآية التي جاءت في قتل عمر للمتقاضي إليه لابد أن نفهم أنها كانت تبريراً له لمكانته خاصة في الإسلام ومن نبي الإسلام ، وليست تشريعاً ، وإلا وجب قتل الأعراب الذين قالوا آمنا وهم مسلمون فقط لم يرتقوا إلى رتبة المؤمنين بعد.

كيف كان لقاض أن يحكم بالكتاب والسنة زمن الراشدين ولم تكن معه نسخة من الكتاب ومن السنة ؟ في هذه الحال أن يجتهد رأيه وهو ما قاله النبي لمعاذ بن جبل سفيرا إلى اليمن ، يعني كل واحد واجتهاده وكل واحد ورأيه فهل هكذا سيحكمونا عندما يركبوا مصر ؟ كل واحد حسب ظروفه ؟! 

الملحوظة التي تؤكد ذلك أنه تم قتل أكثر من سبعين من أسرة النبي الأقربين ، ودخل الصحابة قتالاً قتلوا فيهم بعضهم بعضاً بالألوف من كربلاء وحتى وقعة الحرة المخزية وحتى ضرب الكعبة بالمنجنيق وحرقها ، يؤكد هذا الخوارج الذين رفضوا التحكيم ، يؤكد هذا أطراف معركة الجمل ، كل طرف دوماً كان يتحدث لصالح قضيته بالقرآن والسنة ، وكل طرف ومعه الوضاعين يخترعون له الحديث ، ولم يتحدثا سياسة صريحة ولو كان هناك قانون من القرآن والسـُنة مدوناً لرجعوا إليه في وقعة الجمل أو في مقتل عثمان ، ولكان كل شيء قد سار بسلام إلى نتائجه وفق ترتيب قانوني واضح غير ملتبس.

 إن دولة الراشدين لم تعش حتى السبعين من عمرها وسقطت ، واكتظت بأخبار الفظائع الدموية لأنها لم تكن دولة مؤسسات إنما ائتلاف قبلي لم يتمتع بعد بمؤهلات الدولة المؤسسية وهيئاتها التمثيلية ونظمها المحاسبية وهيئات المتابعة الرقابية والقضائية وهيئاتها التنفيذية التي تضمن سيادة القانون وتحميه لتحقيق العدالة والمساواة.

هذا ما يريدون أن يأخذوننا إليه حيث واحة الديمقراطية والعدل ، غير مدركين أننا نحب ديننا ونحترمه ، لكننا نعلم أن منه كثير مما كان يخص زمنه وظرفه الاجتماعي وبيئته الجغرافية وواقعه التاريخي وقيمه وأساليبه ، وأن علمنا هذا لا يقلل من حبنا واحترامنا لديننا ، لكنه فهم يتركنا بسلام مع حاضرنا نتفاعل معه بلغته من أجل ديمقراطية حقوقية كاملة ، يوضع حجر الأساس لة بالإصلاح هذه الأيام ويجب ن يحضر احتفاليته جميع المصريين ، ليبنوا المستقبل معاً.