ضد الوطن

 بقلم  حلمى النمنم

المصرى اليوم

ثلاث وقائع جرت الأسبوع الماضي وتستحق أن نتوقف أمامها بانتباه وتمعن.. الأولي تتعلق بـ«دار عين للنشر» حيث تقوم الدار بنشر كتاب مترجم عن الفرنسية حول «رحلة العائلة المقدسة إلي مصر» ويضم الكتاب ملزمة من الصور الملونة لهروب العائلة المقدسة داخل مصر، ولأن مسؤول الدار هو أستاذ تاريخ العصور الوسطي د.قاسم عبده قاسم فقد أراد أن تخرج الصور في الطبعة العربية بجودة لا تقل عن الطبعة الفرنسية،   

 

 

وهكذا أرسل ملزمة الصور إلي مطبعة خاصة لديها تلك الإمكانيات فرفض مسؤولو المطبعة وتكرر الرفض في مطبعة ثانية ثم في ثالثة، وكانت المفاجأة أمام د.قاسم أن يرفض القطاع الخاص عملاً، أي إنتاجاً وعائداً مادياً مؤكداً، لكن السبب العقائدي أقوي، فقد رأي مسؤولو المطابع الثلاث أن طباعة هذه الصور «حرام» وقال أحدهم لا أطبع ثلاثة أشياء، ما يتعلق بالبيرة والخمور ثم السجائر وما يتعلق بالمسيحيين.. تري هل رفض الآخران لنفس السبب أم لأنهما اعتبرا رسم نبي الله عيسي والسيدة العذراء مما لا يجوز دينياً؟!   

الواقعة الثانية جرت في البورصة المصرية، حيث عرض سهم بنك فيصل الإسلامي للبيع، وبعد البيع تبين أن من بين المشترين مواطنين مسيحيين، فأعادت البورصة السهم من جديد مشترطة عدم دخول مسيحي للشراء، أي أن السهم حكر علي المسلم فقط، ولا علاقة للبنك بهذا الشرط، بل فرضته البورصة وحين سألت عن رئيس البورصة تبين لي أنه شاب وعضو في الحزب الوطني الديمقراطي، وهو من بين أعضاء لجنة السياسات، والبورصة في النهاية تتبع وزير الاستثمار، الذي هو أحد نجوم «الفكر الجديد»!

تتعلق الواقعة الثالثة بظهور كتاب في طباعة فاخرة بعنوان «أخطاء نصرانية عن محمد والمسيح»، تصورت أن الكتاب دراسة علمية في مقارنة الأديان وشجعني أن المؤلف ليس من علماء الدين بل هو أستاذ جامعي، قرأت الكتاب فإذا بعبارات تدخل في باب السب المباشر للمسيحية علي إطلاقها والكنيسة بجملتها، دون حتي محاولة للتمييز بين كنيسة أرثوذكسية أو كاثوليكية أو بروتستانت، ولأتوقف عند فترة تاريخية بعينها، سألت عن المؤلف فإذا هو «رجل تربوي» وإذا هو أيضاً مسؤول لجنة التعليم بالحزب الوطني الديمقراطي في منطقة مصر الجديدة!

الوقائع الثلاث مخيفة ومرعبة لمن يهتم بأمر هذا الوطن، ولابد من القول بأن الإخوان أو الجماعة الإسلامية وكذلك الجهاد ليسوا متورطين بشكل مباشر في أي من هذه الوقائع، بل إن أعضاء من الحزب الوطني متورطون في واقعتين ومن أدرانا بالثالثة، وليست هناك صلة مباشرة بين أطراف هذه الوقائع، فقد حدثت بدون تنسيق ولا اتفاق، ولكنها تعكس نسقاً عاماً من التفكير والفهم، ولست بحاجة إلي أن أتوقف أمام خطورة ذلك علي الوحدة الوطنية أو ما يسمي هكذا، فالخطورة تتجاوز ذلك بكثير، إذ تمتد إلي الوطن بأكمله.

إن أطراف الوقائع الثلاث لا يصنفون في خانة التطرف والتشدد أو الأصولية، وما قاموا به يعني أن التشدد والتطرف صارا سلوكاً عاماً في المجتمع، وذلك ليس وليد اليوم أو الأمس، إنه حصاد أكثر من ثلاثين عاماً، حين تم تكفير أفكار العدالة الاجتماعية واعتبارها من الفكر الماركسي الملحد، ومعها تمت السخرية من الأفكار القومية والوطنية باعتبارها شعار المرحلة الشمولية،

وتم في المقابل تبني شعار دولة العلم والإيمان، وبالطبع لم يكن هناك علم، جري تغييب العلم لصالح الخرافة والشعوذة، ولم يتم بناء إيمان حقيقي، بل شعارات الإيمان، وهكذا تراجعت فكرة الوطن لصالح أممية دينية، ومع تراجع فكرة الوطن سقطت فكرة المواطن والمواطنة،

 وصار الشعار أن نكون «إخوة في الله» بدلاً من أن نصبح «مواطنين في الوطن» وصار همنا ليس أن نكون أحراراً في الوطن بل أن نستغرق في مظاهر التدين.. وصارت الهوية الدينية هي المعيار وليس الهوية الوطنية، وجري اختزال الوطن في المعتقد الديني،

رغم أن المعتقد الديني أمر خاص بعلاقة الإنسان بالله، بينما الوطن تكون فيه علاقة المواطنين ببعضهم، وفي هذا المناخ يفتش كل منا عن هويته الدينية، ويبحث في أفضلية وتميز تلك الهوية عن أي هوية دينية منافسة أو يراها معادية، ومن هنا جاء التوتر الطائفي في مصر المعلن حيناً والكامن حيناً آخر.

ولا تتوقف النتائج عند التوتر الطائفي، بل هي مدمرة حتي للإسلام وللمسلمين، وهذا يثبته أن نائباً في مجلس الشعب «يغمي عليه» بسبب تصريح لوزير عن الحجاب، بينما لا يغضب هذا النائب مجرد غضب، لوقائع الفساد التي تثبتها الملفات كل يوم، ولا يغضب لتورط بعض الوزراء في فضائح فساد مالية وإدارية..

 وتخرج المظاهرات لرسوم مسيئة في الدنمارك بينما لا يقع غضب، مجرد غضب، لما قامت به إسرائيل في بيت حانون ومن قبله في مخيم جنين، وعشرات المذابح، والمجازر، ونشعر بالقلق علي غطاء الرأس للسيدات والفتيات ولا يصيبنا الهم بسبب النيران علي حدودنا مع غزة وفلسطين والتي يمكن أن تقتحم أبوابنا ولا نقلق لما يجري علي حدودنا الجنوبية في دارفور ولا ما يقع عند منابع النيل في إثيوبيا والصومال.

بالأمس فقط كان هناك «ميني باص» يتبع هيئة النقل العام في طريق صلاح سالم وعلي زجاجه الخلفي بالخط العريض الشهادتان وتحتهما سيفان، وذلك إعلان عن هويته، وقد تحاول الأقلية الدينية الإعلان عن نفسها وأن تؤكد وجودها،

 لكن حين تفعل الأغلبية ذلك فهذا يعني أن الهوية الدينية هي المعيار في المجتمع، وليس الهوية الوطنية، وفي هذا المناخ سوف يكون حرص الأقلية أكبر علي إعلان هويتها الدينية، وفي النهاية فإن المجتمع هو الخاسر، والوطن هو المهدد، وهذا هو حالنا الآن، جيوش البطالة تزداد والمنتج الوطني يتراجع ونستورد كل شيء ولا تصيبنا الغيرة الوطنية، فالمهم عندنا هو ارتداء غطاء الرأس واستعمال السواك!

النيران علي حدودنا وأبوابنا، والبركان تحت أقدامنا، وقد ينفجر في أي لحظة، فالحمم تنطلق بين حين وآخر لكننا في غيبوبة تامة


2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com