Print

أما الإبل فهي لي‏!‏
بقلم : أحمد عبدالمعطي حجازي

اذا كنا جادين حقا في مواجهة الخطر المتمثل في خلط الدين بالسياسة‏,‏ فعلينا أن نتصدي له بصراحة‏,‏ وأن نحاربه مواجهة دون لف أو دوران‏.‏

هذه المواجهة يجب أن تكون في المقام الأول مواجهة فكرية‏,‏ نوضح فيها أننا لا ندعو لعزل الدين عن الدنيا‏,‏ وإنما نميز بين النشاط الديني والنشاط السياسي حتي لا يجتمع علينا الطامعون فينا باسم الدين وباسم الدنيا في دولة واحدة يسرقون فيها ثرواتنا‏,‏ ويغتصبون حرياتنا‏,‏ دون أن تكون لنا سلطة عليهم‏,‏ أو حق في محاسبتهم أو قدرة علي عزلهم وإسقاط دولتهم‏.‏

ونحن لا نستطيع أن نواجه هذا الخطر الداهم فرادي‏,‏ وإنما نواجهه مجتمعين‏,‏ وفي مقدمتنا مؤسسات الدولة التي لا يصح أن تمسك العصا من الوسط‏,‏ أو تستخدم لغة يفسرها كل طرف لصالحه‏,‏ بل عليها أن تضرب المثل في الصراحة والحسم‏,‏ وأن تكون قدوة لسواها‏,‏ وأن تعرف حدود وظيفتها فلا تتعداها‏,‏ وألا تقحم الدين في نشاطها السياسي‏,‏ وألا تستخدمه في الدعاية لنظام‏,‏ أو في الترويج لسياسة‏,‏ أو في الصراع مع خصم‏,‏ أو في العدوان علي حق من حقوق الأمة بحجة الدفاع عن الدين‏.‏

علي مؤسسات الدولة أن تتعلم من حديث عبدالمطلب بن هاشم جد النبي مع أبرهة الحبشي‏,‏ الذي ذهب مع جنوده الي مكة ليهدم الكعبة فدخل عليه عبدالمطلب لا يطلب إلا أن يرد عليه إبله‏,‏ فلما استصغر الحبشي طلبه قال له‏:‏ أما الإبل فهي لي‏,‏ وأما البيت فله رب يحميه‏,‏ وهكذا يجب أن تفعل مؤسسات الدولة فتؤدي للمواطنين حقوقهم‏,‏ وتتركهم يؤدون بأنفسهم حقوق الدين‏.‏

ونحن نعلم أن أسباب الخلط بين الدين وغيره كثيرة مغرية‏,‏ ظروف الناس صعبة قاسية‏,‏ وأدواتهم قاصرة محدودة‏,‏ وتجاربهم في الإصلاح بالطرق البشرية غير مشجعة‏,‏ ولم يعد للكثيرين منهم إلا الدين‏,‏ الدين الآن هو ملجؤهم الأخير من الفقر والقهر‏,‏ وهو سميرهم بالليل ورفيقهم بالنهار‏,‏ فمن الطبيعي أن يصبح في هذه الأيام تجارة رائجة‏,‏ وأن يجعله البعض طبا‏,‏ ويجعله البعض قانونا‏,‏ ويجعله البعض اقتصادا وسياسة‏,‏ دون أن يفرق هؤلاء بين ما كان يصلح لمجتمع بدوي بسيط لا يعرف الدولة وما يصلح لمجتمع متقدم منظم‏,‏ بين النظم التي كانت تتقبلها العصور الوسطي والنظم التي تحتاج إليها العصور الحديثة‏.‏

ونحن نري مع ذلك‏,‏ أن الأحزاب الدينية قد دبت فيها الحياة من جديد‏,‏ وبعض الذين كانوا يهتفون بالأمس لكارل ماركس أصبحوا يهتفون اليوم لحسن البنا‏,‏ وحسن نصرالله‏,‏ وآية الله الخميني‏,‏ ويدعون لنظم هجين يلفقونها تلفيقا‏,‏ ويزعمون فيها أن الزواج حلال بين الديمقراطية الغربية والاستبداد الشرقي‏,‏ وأن الأممية الدينية لا تتعارض مع الدولة الحديثة‏!‏

ومن المؤسف أن تنطلي هذه الأكاذيب علي الشعوب العربية والإسلامية‏,‏ التي لم تر العصور الحديثة إلا من بعيد‏,‏ وأن تستسلم لها غير مدركة أن الأرض تنهار تحت أقدامها وأنها تسقط من جديد في عصور الجهل والخرافة والجوع والحرب الأهلية‏.‏

ونحن المصريين شعب متدين‏,‏ والدين عنصر جوهري في ثقافتنا الشعبية‏,‏ خاصة‏,‏ وفي ثقافتنا الوطنية بشكل عام‏,‏ فهو بالنسبة للمسلمين والمسيحيين ضمير وأخلاق‏,‏ وهو عقيدة صلبة تجعل للحياة البشرية هدفا‏,‏ وللسعي في طرقاتها الملتوية المتشعبة معني وقيمة‏.‏

والخلط بين الدين والسياسة ليس بدعة جديدة‏,‏ فملوك العالم القديم كانوا آلهة أو أنصاف آلهة‏,‏ والأباطرة المسيحيون كانوا يحكمون رعاياهم بتوكيل من الله‏,‏ كما كانوا يزعمون‏,‏ والخلفاء المسلمون كانوا يعتبرون أنفسهم ظل الله علي الأرض‏,‏ وكان فقهاؤهم وشعراؤهم يمدحونهم فيجعلونهم خلفاء لله وليس للنبي فحسب‏,‏ كما قال أبوتمام للمعتصم‏:‏
خليفة الله جازي الله سعيك عن
جرثومة الدين والإسلام والحسب

وكانوا يخلعون عليهم أسماء الله الحسني‏,‏ ويجعلون إرادتهم فوق إرادة القدر كما فعل ابن هانيء الأندلسي وهو يخاطب المعز‏:‏
ما شئت‏,‏ لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار‏!‏
أما في هذا العصر فالدول الغربية التي تخلصت من وصاية الكنيسة وفصلت بين الدين والدولة‏,‏ هي التي شجعت الحركة الصهيونية علي استعمار فلسطين‏,‏ وأقامت إسرائيل لتكون أبشع صورة لخلط الدين بالسياسة وتسخير علوم العصر وخبراته وتقنياته لخدمة الأسطورة الدينية‏,‏ ومن الطبيعي أن يجد هذا المسخ البشع الذي شاركت في استنساخه أذكي العقول وأكثرها استغراقا في الشر واتباعا لوحيه‏,‏ من الطبيعي أن يجد هذا المسخ من يعجبون به ويحاولون تقليده‏,‏ حتي في منطقتنا ذاتها التي نجحت بعض دولها في سرقة التقنيات الإسرائيلية‏,‏ سواء في خلط الدين بالسياسة‏,‏ أو خلط الخرافة بالتكنولوجيا‏!‏

لكن هذه التطورات المؤسفة وهذه الظواهر السلبية المختلفة ليست مبررا لخلط الدين بالسياسة‏,‏ وليست دليلا علي أن هذا الخلط صحيح أو مفيد‏.‏

الدين مكانه قلب المؤمن الفرد‏,‏ وموضوعه عالم الغيب بحقائقه‏,‏ وقيمه الثابتة التي يجب أن نؤمن بها ونمتثل لها‏,‏ والسياسة مكانها المجتمع‏,‏ وموضوعها عالم الشهادة أو الواقع الذي يتغير كل يوم وكل ساعة فتتغير المطالب وتتغير المعارف وتتطور الأحكام‏.‏

والذين يريدون أن يحبسوا الواقع في النصوص الدينية التي لا تتغير ولا تتبدل كالذين يريدون أن يخرجوا كل يوم من مذهب لمذهب ومن دين لدين‏,‏ ولقد فصل الإسلام في هذه القضية فقال للمسلمين‏,‏ أنتم أعلم بأمور دنياكم‏!‏ وفصلت فيها المسيحية فقالت للمسيحيين اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله‏!‏

هذا الفصل الحاسم أصبح مبدأ مقدسا لا يحق لأحد في هذا العصر أن ينكره أو يتجاهله‏,‏ لا أفراد المجتمع ولا مؤسسات الدولة التي لا يتورع بعضها عن فرض وصايته علي الدين‏,‏ كأن هذه الوصاية حلال لها وحدها‏,‏ وكأنها تحارب اشتغال الجماعات الدينية بالسياسة لتشتغل هي بالدين‏
!