Print

فى مهزلة التعليم.. المسيحيون يمتنعون

فاطمة ناعوت

فاطمة ناعوت
ونحن صغار، فتحوا لنا مدارسَهم على وسعها، وفتحوا لنا قلوبهم على وسعها. علّمتنا راهباتُهم الأخلاقَ والقيم. وفاض علينا معلّموهم من علمهم ومعارفهم. أفهمونا أن مصر وطنٌ لكل المصريين، وأن الأرضَ وطنٌ لكل البشر، وأن الإنسانية ناموسُ الأرض.

وأن المحبة قانونُ الحياة. لا فرق بين إنسان وإنسان إلا بقدر أخلاقه وعلمه ومساعدته للآخر. تربينا فى مدارس مسيحية، فلم نشعر بالتمييز بيننا وبين زملائنا المسيحيين. مدرستى المسيحية التى نشأتُ بها فى طفولتى، كانت تضم بين أسوارها مسجداً صغيراً أنيقاً ونظيفاً. نُصلّى فيه متى شئنا.

ونتناول من رفوف مكتبته ما شئنا من مصاحفَ وكتبٍ إسلاميةٍ تناسبُ أعمارَنا الصغيرة، مثلما كانت تضمُّ بين أسوارها كنيسة أنيقة. يدخلها زملاؤنا المسيحيون للصلاة متى شاءوا. وندخل حديقتها لنطارد الفراشات الملونة، ونقطف من أشجارها أوراق التوت الخضراء، لكى نُطعم دود القزّ الذى كنا نربيه فى أبريل. نسمع ترانيمهم الطيبة يمجدون فيها إله الكون الواحد.

الذى يعبده ستة مليارات إنسان يعمّرون هذا الكوكب، كلٌّ عبر منظومته التى اختارها، أو بالأحرى التى ورثها عن أبويه. تعلمنا معاً، مسلمين ومسيحيين، أن ندعو اللهَ أن ينثر المحبة والسلام بين الناس، لأن من يحبُّ اللهَ، لا يكره مخلوقات الله. 

صغاراً كُنّا. أنبتتنا أرضٌ طيبة وترعرعنا فى بيئة صحية، فنشأنا صالحين؛ قلوبنا بريئة من البغض والحقد والحسد والعنصرية والتضاغن. كانت مصرُ آنذاك ما زالت نقية من سموم العنصرية التى هبّت علينا رياحُها من فضاءات غريبة لا تُشبهنا، فظننا أن النقاء والمحبة هى طبائعُ الأمور وقانون الأشياء. علّقنا معاً زينة رمضان فى شوارعنا.

وحملنا معاً الفوانيس الملونة لتضىء شموعُها ليالى القاهرة التى كانت تزغرد بالفرح. ما عرفنا أيَّنا مسلمٌ وأيَّنا مسيحىّ. فنحن إنسانٌ ونحن مصريون. علّقنا معاً زينات أشجار الكريسماس وتبادلنا هدايا العام الجديد، ونسينا أن نسأل: أيّنا مسلمٌ وأينّا مسيحى، فنحن إنسانٌ، ونحن مصريون.

وكبرنا معاً، وتزاملنا فى الجامعات ثم فى العمل. ونحن صغار، ما كنّا نحسب أن لحظةً مُرّة ستأتى على مصر لتخلعَ وجهها الذكىّ الطيب وتستبدل به وجهاً جهولاً عنصرياً. حاشاها مصر أن تبدّل وجهها! إنما وضعوا على وجهها، رغماً عنها، ذلك القناع البغيض الذى لا تحبُّ أن تعتمره. 

صغاراً أبرياءَ كنّا. ما كنا نتخيل، فى أسوأ أحلامنا، أن يوماً قريباً سيحلُّ على مصر، ليغلق المسلمون فيه أبواب المدارس فى وجه المسيحيين الذين فتحوا لنا أبواب مدارسهم وأدخلونا قلوبَهم، وعلّمتنا راهباتُهم ومعلّموهم المعارفَ والأخلاق وحب الوطن! 

هذا ناظر مدرسة فى سوهاج قالها بالفم الصريح يقطّر بُغضاً: «مفيش مسيحى هيدخل المدرسة طول ما أنا مسئول عنها!» وبالفعل، منع ثمانية عشر تلميذاً من الالتحاق بمدرسته رغم استيفائهم كافة الشروط المطلوبة. 

بصفتى مواطنة مصرية، تعلّمت على يد أساتذة فضلاء مسيحيين فى مختلف سنوات دراستى، أطالبُ بالتحقيق الرسمى فى هذا الأمر، فإن ثبت ما قال كما سمعنا فى نشرات الأخبار، فأننى أتقدّم ببلاغ رسمى ضد المواطن: «عادل زين الدين»، ناظر المدرسة، الذى خالف الدستور واخترق القانون، ومن قبل ومن بعد، خالف قانون الجمال والتحضر.