Print

قُدُومُ القِدِّيسِ سَاويرس الأَنْطَاكِيِّ إِلىَ مِصْرَ

القمص أثناسيوس چورچ.

الروح طلب ساويرس؛ كما طلب قديمًا بولس وبرنابا للتبشير بالأنجيل نورًا للمسكونة ومِلحًا لا يفسد، فانتُخب ساويرس بطريركًا للكرسي الأنطاكي الرسولي في مجمع صور سنة ٥١٢م حيث اقتبل رتبة البطريركية السامية، ليكون خليفة للقديس بطرس الرسول، عندها حدث عجب في رسامته، إذ كانت رائحة الطيب تفوح في كل مكان بحضور السمائيين لصلاة التكريس والرسامة، واستعاد هذا الكرسي التليد مكانته، بدحض آراء نسطور وأوطخيا وطومس لاون الروماني .

كتب الأنبا ساويرس فور رسامته عهدًا لرؤساء الأديرة؛ أكد فيه الأمانة الأرثوذكسية المستقيمة وقانون إيمان المجامع المسكونية (نيقية والقسطنطنية وأفسس)، مع حرمِهِ للقائلين بالطبيعتين بعد الاتحاد... كذلك كتب الأشعار (المعانيث) والتراتيل المتضمنة للحقائق الإيمانية والمزامير والتفاسير .

اشتهر الأنبا ساويرس بموهبة إخراج الشياطين والأرواح الشريرة، كذلك تميز بافتقاده للبلاد في زيارات رسولية تقليدية قانونية ضرورية، يبشر ويعظ ويصلي ويطهر من برص الهرطقات. عقد مجمعي أنطاكية وصور سنة ٥١٣-٥١٤م بمؤازرة مار فليكسنيوس المنبجي.. كذلك عزز الأخوة والشركة ما بين الكرسيين الأنطاكي والسكندري، وحرم الأساقفة المنغمسين في حمأة البدعة النسطورية، معتبرًا أنهم ذئاب ومشحونون بالمخالفة للأسفار المقدسة والقوانين الكنسية.

اشتهر بعظاته على مدى سنوات بطريركيته، وبمديحه الآباء أغناطيوس وأثناسيوس وباسيليوس وغريغوريوس وأنطونيوس الكبير في تذكارات أعيادهم، وقد اقتدىَ بهم وأخذ عنهم المعرفة والغَيْرة الرسولية والعيشة النسكية، وتمنى أن يموت شهيدًا كالذين سبقوه، وكان شغوفًا بالقديسين والشهداء؛ حريصًا على تذكاراتهم، فمهما كانت انشغالاته إلا أنه واظب على إلقاء الخطب في المناسبات الطقسية والتعييد للآباء القديسين؛ معتبرًا أن التأمل في حياتهم يُنزل علينا إشعاعات نورانية تجعل سيرتهم كعسل حلو في أفواهنا، وكأقراص العسل في نفوسنا .

تُسُمّي أنبا ساويرس بفم الذهب، وسماه يعقوب السروجي بالطوباوي وقويم الإيمان المتسلح بالحق، ووصفه بأنه غير مُغرَق بحب الرئاسة، وغير متشبث بشهوة السلطة.. لأنه وجد أن الحياة المسيحية تسلُّق لجبل الفلسفة الإلهية، وبلوغها يشبه قمة الجبل؛ لأن ناموسنا لا نقبله في ألواح حجرية بل ناموس الروح وألواح القلوب، لنلهج به كل حين ونطبقه بالعمل، وقد صرنا شريعة لمن يروننا، في شريعة السيرة التي تقود للحياة العتيدة، والتي نبدأها ونعيشها منذ الآن، متشبهين بالأجناد العقلية في التسبيح والسجود والهذيذ بالأسفار القدسية التي منها نجني ثمار الفردوس ونجمع الأزهار.

ففيما نحن هنا على الأرض بالجسد، نسكن عقليًا في السماء، أغنياء بالفضيلة، نضبط الغضب والشر والشهوة ونرفض حياكة المؤمرات والوشايات والفتن وعبادة الفضة، ونتحلى بالكلام الموزون؛ لنعيش حياتنا الحاضرة والعتيدة في آنٍ واحد .

كذلك رعى رعيته الناطقة بالمعرفة العقلية والروحية والرعوية بكل ما فيها من معاني... وقادها إلى المرعىَ الصالح، يوردها إلى مياة الراحة الصافية، وهو لم يكرز لهم بيسوع آخر ولم ينادِ ببشارة أخرى، ولم يضع أساسًا غير الموضوع؛ لكنه بنى كمهندس وبنَّاء حكيم ... وشرح الاعتقاد بتجسد الكلمة من العذراء القديسة مريم ومن الروح القدس، اتخذ ناسوتًا مساويًا لنا في الجوهر، بنفس عاقلة وبدون امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير، فهو واحد من طبيعتين؛ مسيح واحد ورب واحد وطبيعة متجسدة .

وقد كتب اعتراف الإيمان على أبواب الأديرة مع حرم للمجمع الخلقيدوني. كان أنبا ساويرس ينصت أولاً للهمسات الإلهية كي يقتني خبرة الروح؛ لا ليرضي الناس بخدمة العين؛ بل لينبه وينذر ويكرز؛ معتبرًا أن واجبات الإكليروس ورسالتهم، بأن يوكل إليهم أن يكونوا رعاة من أجل العمل والسهر والتفتيش كل حين، كقدوة وكمثل وكرامة وسيرة معاشة أمثلة للرعية باستقامه الحياة؛ لأن الكاهن كرقيب للرعية هو أول من يراقب حياته ويلاحظها كعلامة للحياة المستقيمة. كذلك السهام تصوَّب للرعاة من بعض الرُّماة الذين يصوِّبون سهامهم ويعتبرونهم مرمىً، فينصِّبون قوسهم ويثبتوه نحوهم كهدف وعلامة يرسلون عليها السهام .

فالشعب ناظر نحو الكاهن كما نحو هدف أو علامة (سلوكه ، أعماله، سيرته)، لذلك الكلمات التي ترسم وجه الكاهن هي كونه رقيبًا ينظر ويُشرف ويتطلع ويرصد قدوم العدو، ليفتقد ويفتش ويبحث وينقِّب ويلاحظ ويمتحن ويفحص ويبحر كالغاطس إلى الأعماق نحو خلاص نفسه والذين يسمعونه شاخصين نحو مخلصنا الوحيد، مدبر ومنجي كل أحد، والذي لا يشاء موت خاطئ مثلما يريد أن يرجع وأن يحيا بإرادة حُرة وتجاوب الاستجابة لعمل النعمة المجانية. ورأىَ أن الراعي لا بُد أن يكون ساهرًا حارسًا حراسات الليل ليشرق عليه مجد قوة الأعالي.

(كله عين) يبقي واقفًا لا يجلس ولا ينام كراعٍ ماهر صالح، لا يميل يمنةً ولا يسرةً، يسير في مقدمة القطيع كراية وعلامة وحامل للعلم، يراه القطيع من بُعد ليوجه مسيرة الرعية (كعلامة مميزة)، وصوت صارخ ينفخ بالبوق ولا يسكت.

وهو في كل دورة (سنة ليتورچية) يأتي إلى نفس الموضوعات حسب القطمارس، غير حاسب أنه تكرار؛ وأن التعليم مزمع أن يكون الشيء عينه؛ لكنه اعتبر ذلك بإرشاد وهدير ودنين لا يتوقف عن قول الشيء عينه مرات ومرات من أجل التكميل.

وعندما أتى الأنبا ساويرس إلى مصر سنه ٥١٨م ، عاش بها عشرين عامًا؛ بعيدًا عن كرسيه بالجسد؛ لكنه لم يكن بعيدًا عنه روحيًا، وكان يضع على رأسه غطاء الفلسفة (القلنسوة)، وقد نظم أحد فلاسفة السريان أنشودة تقول (يا مصر يا مصر قومي رحِّبي بساويرس الآتي إليكِ؛ وافتحي له أبوابك؛ وزيني شوارعكِ ليدخل إليكِ ويطرد منكِ كل تعليم نسطوري وقح)، لكنه بشدة اتضاعه كان يجول متنكرًا من مكان إلى مكان؛ ومن دير إلى دير.

وقد أجرى الله على يديه آيات وعجائب كثيرة؛ ولأنه أحب حياة الوحدة كما عاشها بالدير الذي شيدة في غزة .. كذلك عندما أتى إلى مصر سكن في دير الزجاج (غرب الإسكندرية)، وكتب مصنفاته في شكل مدارش منظومة تنشد، أو في شكل ميامر منظومة تقرأ ولا تنشد - كتابات جدلية ودفاعية وطقسية وتفسيرية وخطب منابر - وعظات ورسائل يعسر إحصاؤها، وقصائد وأشعار وسير في التزهيد والوصف والأبحاث والشرح والمديح.

كذلك كتب نوافير عديدة (أنافورا) اتسمت بنصاعة الألفاظ ودقة المعاني وحلاوة البلاغة والخشوع، وقد جمع بين الفكر اللاهوتي الأنطاكي والسكندري في كل كتاباته وفي دفاعه الكريستولوچي اللاخلقيدوني، إن سيرته الطاهرة وسيفه القاطع للهرطقات كان كالأسد، عجيبًا في قوة محبته وحفظه للأمانة الأرثوذكسية، باسطًا يديه كموسى؛ فأهلك أصحاب البدع، وصعد على الجبل كارزًا بالإنجيل؛ صبورًا محتملاً كخلية العسل والرحيق والعصارة الروحية، فليكن ذكراه مؤبدًا .


القمص أثناسيوس چورچ.