Print

العقل الباطن فى نهج أمريكا العابر للأطلنطى
 

في مقال يتراوح بين الحوار والتقرير، ومحاولة وضع علامات مضيئة للمؤرخين، بعنوان (بنهج أوباما) في مجلة الأطلنطي، عدد ابريل 2016، بدا مسرفاً في وصف دهاليز السياسة الأمريكية، ولكنه دقيق الصياغة ومنحاز لرئيس يتأهب للرحيل.

المقال - الدراسة تجاوز أعمال الصحافة فهو استعرض عالم أوباما من كاليفورنيا لفيتنام واندونسيا ومن تأثيرات العولمة للمآسي في الشرق. دراسة تطل علي آسيا الصاعدة لهموم زوال القوة في الولايات المتحدة. ويكتسب المقال حيوية خاصة بعد خطاب هيلاري كلينتون في شهر مارس هذا العام في (مؤسسة الإيباك). فالمرأة القادمة لسدة الحكم وضعت أسس خلافها مع (نهج أوباما) ذاك الذي وصفه المقال. فلقد كانت سوريا وشرق المتوسط هي الساحة التي ظهر وتبلور فيها هذا النهج، وهو ما سيظهر فيه بالتبعية الخروج عن إستراتيجيته.

كان أوباما قد أعلن أن على الأسد أن يرحل عام 2011، لكنه في واقع الأمر لم يتخذ بداية موقفاً فعالاً في هذا. إلا أنه قَبِل لاحقا بعد مفاوضات شابها التردد والحذر (أن تدرب المخابرات الأمريكية المتمردين في سوريا). وكان هناك من بين فريقه من يضغطون على الرئيس للتدخل الأعمق في سوريا. وكان أوباما يحاول تبني سياسة خارجية واقعية.

يحدد المقال يوم الثلاثين من أغسطس عام 2013 (كيوم حاسم في تاريخ أوباما وربما لحظة النهاية المبكرة لسيادة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة حول العالم). ففي هذا اليوم تراجع أوباما عن شعارات وزير خارجيته جون كيري بشأن سوريا وما صاحبها من تهديدات. كان إطلاق غاز السارين أثناء معارك المرتزقة المسلمين مع الدولة السورية في منطقة الغوطة، والصور التي تناقلها الإعلام للضحايا الذين تجاوزوا ألف إنسان، منهم مئات الأطفال هي صور درامية. ففي هذا اليوم ارتفعت طبول الحرب وتصريحاتها وانتقل عدد من حلفاء أوباما للدعوة للحرب ومنهم (جو بايدن). وبدا للجميع أن الرئيس الأمريكي سيطلق صواريخ الكروز لضرب دمشق .

غير أن أوباما كان أقرب لتصور أن ما حدث في الغوطة هو كمين لدفعه للتدخل فها هو (يتلقي زيارة مفاجئة) من (جامس كلابر) مدير المخابرات الأمريكية، مشككا في دقة المعلومات عن هوية من حقاً أطلق غاز السارين؟ وها هو أوباما يصطحب رئيس فريقه وأحد ناصحيه (دينس مكدونو) بعيداً عن حجرات البيت الأبيض وممراته إلى الحديقة المحيطة به ليعود لغرفة متابعة الأزمة قاطعاً أن الولايات المتحدة لن تطلق صواريخ على سوريا. والقائمة التي تشير إليها تلك المقالة من الأسماء المتذمرة من قرار عدم ضرب سوريا طويلة فمن (سوزان ريس) مستشارة الأمن القومي (لمانويل فولا) رئيس وزراء فرنسا (لولي عهد الإمارات العربية) (لملك الأردن) للسعوديين (بصيغة الجمع) (لجون ماكين) (لجون كيري) (لتشك هيجل).. قائمة طويلة ممن يقرعون طبول الحرب.

ويصف المقال الكبير إذاً أن أوباما (تحرر من قيوده) يوم 30 أغسطس هذا. فالرجل يعتقد أنه بقراره هذا منع حرباً أهلية أمريكية بين مسلميها وغير المسلمين وأنه عن طريق اتفاقه مع الروس نزع أسلحة سوريا الكيماوية منقذاً إسرائيل وتركيا والأردن من نتائج صراع عسكري مدمر.

أوباما المطلع علي ديانات وثقافات العالم متعاطف مع الفلسطينيين علنا بل انه سرا يتفهم الدوافع والقوي التي تدفع الإسلام المتطرف لجحيم العنف وإن كان شديد الحرص في تلافي التعبير عن هذا علنا. أوباما الذي وجد ضالته في (أردوغان) كنموذج لإمكانية العبور بين الشرق والغرب يعتبره الآن فاشلا لأنه رفض أن يستخدم جيشه الكبير في (استعادة الاستقرار في سوريا). أوباما يصف ليبيا بأنها فوضى ولكنه هو ذاته الذي استخدم تعبير (شراء) دور فرنسا في غزو ليبيا لأنه أرخص من الخسائر المباشرة للولايات المتحدة. ويعزو أوباما فشل الحملة علي ليبيا لحلفائه الأوروبيين رغم أن غزو ليبيا تم بعد خلاف بين مساعديه وتزعمت هيلاري كلينتون الدعوة للتدخل (هيلاري تود أن تكون جولدا مائير كما وصفها جوبيدن ساخراً). أوباما الذي طارد بن لادن وهو ذاته الذي عقد الاتفاق النووي مع إيران ولكن المقال لم يتطرق لقضية صواريخ حزب الله رغم أنها قضية مركزية لدى إسرائيل وفي الصراع الدولي.

الإدارة الأمريكية ليست كيانا منسجما ولكنها (مصفوفات) ضخمة لها امتدادات هائلة حول العالم. خلافاتها السياسية تستمر في الأطراف لما لها من آليات وميزانيات ثرية وما ينضوي تحتها من مؤسسات متباينة في المصالح و الرؤي. رفض أوباما أو حاول تلافي التورط في معارك صقور ادارته. لم يكن الرجل وحده، فهناك اليوم قطاع في السياسة الأمريكية يتساءل لماذا نحارب في الشرق؟ لماذا لا نتعامل مع إيران بشكل مختلف؟ هل هو النفط أم هل هو أمن إسرائيل؟ تجرأ أوباما أو من نقل عنه فبدا في ثنايا الحوار كأنما هناك صوت خافت يتساءل عن البديهيات (هي المشكلة إيه بالضبط؟) مثلا (هل السعودية حليف؟) أو بالأحرى هل (يليق أن تكون السعودية حليفا) ؟

لا يملك المرء إلا أن يتخيل أن هناك سؤالا مبطنا وهو إذا كانت السعودية حليفا (ألم يكن ممكناً أن يكون العراق حليفاً أيضا؟) تشعر بين السطور أن هناك تساؤلا دائما ومؤلما (لماذا ضربنا العراق؟) والإجابة في حدود كلام أوباما الملتوي وغير المصرح به حتى في المقال إنها (إسرائيل) (طب ليه يعني إسرائيل مهمة كده؟) سؤال يكاد يقفز من سطور المقال.. أليس شرق آسيا أهم لنا؟، تلك هي تساؤلات العقل الباطن لأوباما، وربما معه قطاعات واسعة من الإدارة الأمريكية.

للعقل الباطن القدرة على الحلم إلا أن تلك الأحلام والأسئلة الخطيرة والخارجة عن السرب ردت عليها هيلاري كلينتون بالنفي في خطابها في الإيباك في 21 مارس 2016، حيث حددت أن المخاطر التي تواجه عالم الولايات المتحدة وإسرائيل هي ثلاث (إيران - التطرف - محاولات عزل إسرائيل). وردت السيدة كلينتون علنا على ما يتردد همساً لن نسمح أبدا أن يعتقد أعداء إسرائيل بأنه من الممكن خلق فجوة بين إسرائيل والولايات المتحدة.

غاب عن المقال الكبير أي حديث جاد أو موسع لأزمات الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادية بل وتأثير أي مواجهه عسكرية خارجة عن السيطرة على الاقتصاد الأمريكي فلقد سبقت الأزمة الاقتصادية وتراكم الدين الأمريكي البالغ 18 تريليون دولار حكم أوباما بعقود ولكن أزمة التمويل العقاري الحادة في عام 2008 سبقت توليه لمسئولياته بشهور، وهكذا فلقد تحددت بعض أولوياته وهي تلافي تطور الأمور إلى كساد عظيم.

وغاب عن المقال العملاق بالضرورة أي إشارة متوسعة لصناعة النفط وتأثيرها علي تطور (نهج أوباما) فالنفط وحمايته كان مبرراً دائما للسياسات العدوانية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. حقيقة الأمر هي أن النفط صناعه أمريكية كاملة مالياً وعلمياً وسياسياً. ومن يعملون فيها بغض النظر عن أجناسهم ومناصبهم هم مجرد تروس في تلك الصناعة الكونية العملاقة. وفي ظل حكم أوباما انتقلت السياسات الأمريكية لواقع مختلف في تعاملها مع النفط عمن سبقوه.

غاب الاقتصاد والنفط إذاً عن المقال الكبير ولكنه مالا يمكن أن يغيبا في الواقع فنهج أوباما هو محاولة لتحديد أولويات السياسة الخارجية والعسكرية الأمريكية حول العالم دون التورط في تكاليف سياسية باهظة. فهل الشرق الأوسط هو بؤرة أمريكا اليوم، وهل حلفاؤها اليوم هم حقا حلفاؤها أم تري أنها آسيا؟ هل التدخلات العسكرية الأمريكية وحروبها في الشرق مبررة بالنفط أو حتى بأمن إسرائيل؟ هل أمن إسرائيل هدف مطلق مجرد أم أن الهبوط الآمن الاستراتيجي لإسرائيل ودول أخرى في الشرق الأوسط هو الهدف.

لقد تسلل الشك في مصداقية المبررين إلى أجزاء مهمة في المجتمع والنخبة الأمريكية ونهج أوباما هو الدليل. غابت مصر تماما عن الكلمات في المقال الكبير إلا مرتين، لكن مصر في الحقيقة تبقي بوابة الشرق الحقيقية حتى وإن تجاهلتها العبارات ودراسات حاملي الدكتوراه في البيت الأبيض فالعمى الاختياري هو مرض نفسي ذو غرض لا يظهر إلا علي شاشات السينما و في الدراما الرخيصة فقط.